د. عبدالحق عزوزي
منذ تحرير مدينة سرت من تنظيم «داعش» توجهت أنظار الدول الكبرى إلى هذا البلد وخاصة دول الجوار التي تحركت بكل ثقلها السياسي وضاعفت من تحركاتها الدبلوماسية في اتجاه دفع الليبيين إلى الحوار والتوافق حول نقاط الاختلاف بما يسهل الوصول إلى تسوية للمأزق الراهن الذي أصبح يقلق المجتمع الدولي. وقال تقرير أصدرته إحدى المراكز إن ضعف حكومة الوفاق الليبية، والتركيبة السياسية والقبلية، والمواقف الإقليمية والدولية لن تسمح بنصر عسكري لأي طرف، وهو ما تجلى من خلال الصراع على الهلال النفطي وهو ما يجعل كل حل صعبا. ماذا يقع بالضبط في هذا البلد وفي بعض الدول الفاشلة الأخرى؟؟
أولا ينتابك شعور من الحسرة والغضب عندما ترى نصف برمجة الأخبار في القنوات الإخبارية العالمية وغيرها مخصصة لبعض بلدان الوطن العربي وما يقع فيه من قتل وتدمير وتفكك وهجرات وتفجيرات وانتكاسات وبطالة وإحباط.. إنه الواقع المزري الذي لا ينتهي كأننا خارج التاريخ. وفي كل تلكم البلدان نخب متعلمة ومتمكنة، منها من سيرت مؤسسات رائدة في دول المهجر ثم رجعت إلى بلدانها ومنها من وصلت القمم في أبحاثها ومنها من كونت مدارس فكرية وأتباع بالآلاف في المعاهد والجامعات العالمية، ولكن عندما يتعلق الأمر ببناء الدولة الحديثة وبناء المجال السياسي العام الجديد في بلدانهم انطلاقا من أدوات سياسية مسطرة في كتب العلوم السياسية وفي تجارب الأمم، يخرج شياطين الإنس والجن لتقويض دعائم بناء الدول، وليصل المجتمع في بعض الأحيان إلى عهد الجاهلية الأولى. في المنتديات التي كنت أنظمها في فاس دائما ما كنت أستمتع بتدخلات زملاء ليبيين لهم باع طويل في مجالات وتخصصات دقيقة،.. ولكن عندما ترى واقع أوطانهم يغيظك حال مواطنيهم وبلدانهم....
إن بناء الدول يقوم انطلاقا من أدوات علمية رزينة وليس بناء على رغبات أو نزوات عابرة؛ فبناء الدولة تقوم على ثنائية العلم والعمل السياسي. وهما عاملان لمعادلة توازنية واحدة. فبدون العلم أي المعرفة فإن التقنية والتقدم والاحتراف تنتفي داخل المجال العام للدولة وآنذاك صل صلاة الجنازة على البلاد، وبدون عمل سياسي حقيقي خاضع لأدوات حقيقية ولأدوات العلوم الإنسانية والاجتماعية الدقيقة فإن إدارة الشأن العام ستفشل وتضيع بذلك مصالح الجميع...
وفي العديد من الأوطان العربية تنهار بعض من مظاهر هاته الثنائية فيتلوث المجال السياسي العام وتدخله ميكروبات خطيرة تأتي على الخلايا السياسية والخلايا الرمادية على السواء.....
ثم إن السياسي، كما كتبت ذلك مرارا، عليه أن يتمتع بثلاث صفات محددة: الشغف والشعور بالمسؤولية وبعد النظر... والشغف، يعني الانكباب على المشاكل ومعالجتها بشغف ودراية ولا بجهل وببلادة، ولا يمكنها أبدا أن تؤتي أكلها ولو بعد حين، خاصة عندما تغيب المسؤولية وتقوى المصالح الذاتية الآنية على مصالح البلد. ثم يضاف إلى هذا كله بعد النظر، وهي ملكة وتجربة ودراية وقوة وقدرة وصفة حاسمة عند السياسي لو تمتع بها العديد من بناة المجال السياسي العام الجديد في بعض الأوطان العربية لوصلت إلى بر الأمان؛ فانعدام المسافة بينه وبين الأشياء والناس هو أحد الأخطاء القاتلة بالنسبة إلى كل من يتعاطى السياسة... فالترويض القوي للنفس، هو الأمر الذي يجب أن يميز كل سياسي يتصف بالشغف عن السياسيين الهواة الذي يتميزون «بالانفعال السياسي العقيم» وهذا يقوم أو يصبح ممكنا انطلاقا من التعود على اكتساب عادة اتخاذ هذه المسافة بكل ما للكلمة من معنى...
وللأسف الشديد فبناة المجال السياسي العام في بعض الدول العربية ينظرون إلى المظاهر والظلال والسطحيات ويتغاضون عن الحقيقة الكينونية للأمور، فلا يمكن مثلا للعالم الفيزيائي العلمي الأستاذ أن يدرس لطلبته مظاهر وسطحيات الفيزياء وإلا بقوا محدودين وزج بهم في الظلمات الدائمة.. وإذا بقي المجال السياسي العام مريضا فإن أدوات التنمية والبحث العلمي ستتوقف وتنهار... فدول مثل ليبيا يحتاج فاعلوها الكبار إلى مثل هاته القواعد ليبنوا دولة حديثة بكل مقوماتها وبكل أبعادها، وإلا سيبقى البلد قبلة لكل الصراعات القبلية وعاصمة لكل الإرهابيين الذين يجدون فيها ملاذا آمنا، ومكانا لتحقيق سياساتهم الإرهابية. آخر الكلام: عقدت اجتماعات كثيرة في بلدان عديدة وتحت إشراف الأمم المتحدة لإصلاح ما يجب إصلاحه بين إخوة الأمس الليبيين، ولكن أحسست مع مرور الوقت أن الجميع ينسى بأن الحل الأول والأخير بيد الليبيين أنفسهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.