فيصل أكرم
من يمدحك في حضورك ويذمّ غيرك في غيابه، هو نفسه من يمدح غيرك في حضوره ويذمّك في غيابك!
ليس هذا بغريب، فهو من الوضوح لدرجة أننا نغضّ الطرف عنه دائماً.. إنما الغرابة كلها حين تجد من يفعل ذلك – المديح والذمّ لا غض الطرف! - محبوباً بين الناس، وكل المحيطين به يثقون بكلامه ثقة عمياء!
هل هما علامتان للتعجّب تبحثان عن علامة للاستفهام؟
في أمّهات كتب الأدب العربي نجد شواهد كثيرة بعكس هذه الصورة، وبمعنى أن الصفات الحسنة تستحق المديح والصفات السيئة تستحق الذمّ، والشيء نفسه على الأفعال، ولا أذكر أنني قرأتُ شيئاً من الأدب العربيّ القديم يشير إلى أن المديح في حضور الشخص أمرٌ مريبٌ ويدعو للمراقبة – ولا أحبّذ الشكّ حتى التبيّن – بخاصة حين يسرف المادح لك في ذمّ غيرك بسخاء يجاري سخاءه في مديحك.. وتنتبه أنك الحاضر أمامه الآن وغيرك الغائب!
هل للعطايا والهدايا والهبات دورٌ في ذلك؟ أقول: بالطبع؛ فتلك هي غايات السمة الغالبة على معظم ما نُقل إلينا من الأدب العربي.. للأسف. فماذا عن الكتابة الآن؟ بغضّ النظر إن كنا نسميها أدباً أو مجرّد كتابات انتهت مسببات انضباطها فأصبحت منفلتة نحو النشر عبر وسائله الإلكترونية السريعة المتعددة، هل نجد الشيء نفسه؟
من مطالعاتي الخاطفة بين هذا وذاك أجد أن لا فرق.. بل ربما وجدتُ تصريحات رمزية تدلّ على أن من يمدح يحصل على المقابل فوراً، وأن من لا أمل في الحصول منه على شيء يذمّ بأسوأ أدوات الذمّ الآن.. وهي: (التجاهل)!
تغيّرت الأساليب والوسائل ولكن لم تتغيّر الطباع والغايات!
ذلك عن الحالات الشخصية بين الأفراد، أو من تعارفنا على تسميتهم بالأصدقاء.. ولكن: ماذا عن الحال العام؟ فلندع الذمّ لأهله ونتوقف عند المديح، ماذا...؟
(ماذا تقولُ الآنَ لي؟
ستقولُ في خجلٍ فصيحْ
جرِّبْ قصيدتكَ التي..
لم تستعر من أجلها لغةَ المديحْ
من ذا ستُعجِبُه المدائحُ؟ والجوارُ
بكلِّ ناحيةٍ قتيلٌ أو جريحْ
ماذا أقولُ الآنَ لكْ!
سأقولُ في وجهِ الحياةْ
سأقولُ: ما قد عاشَ فينا،
قد أماتَ الصمتَ فينا.. ثم ماتْ
فانظر معي
اقرأ
تأمَّلْ
واحتملْ
لو ما استحالتْ ذكرياتُكَ أمنياتْ
سيعودُ صوتكَ سابحاً ومسبِّحاً
يتلو على الدنيا كتابَ المعجِزاتْ)*
غير أن كتب الأدب العربي، قديمها وحديثها، لم ولن تكفّ عن التعامل مع المديح تحديداً بذكاء يستهدف اللحظة خداعاً، ثم يمضي في التاريخ مغالطة وإيهاماً؛ غير أنه – في سياق الحديث عن المديح – لا يمكن تجاهل إحدى الحكايات الرائعة للحكيم الإغريقي أيسوب (620 - 564 ق.م) تتحدث عن مديح ثعلب لصوت غراب كان يحمل بمنقاره قطعة جبن، حتى حين أراد الغراب أن يقول (شكراً) للثعلب سقطت قطعة الجبن التي التقطها الثعلبُ وهو يلتفت للغراب قائلاً: أغلق فمك أيها الغبيّ، فأجمل ما لديك هي قطعة الجبن التي أسقطتها من فمك، فأغلقه ولا تسمعني صوتك الكريه المزعج أبداً»!
وقد جاء مغزى تلك الحكاية بأشكال ونصوص متعددة في أدبنا العربي، قديمه وحديثه.. هذا ولم أجد، في حدود معرفتي واطلاعي، حكايات أو قصائد تظهر العلاقة الوثيقة بين ذمّ الآخرين في غيابهم ومديح الشخص الحاضر، وأن تلك حالة ستنعكس حتماً حين يغيب الحاضر ويحضر من كانوا غائبين
!
* المقطع من قصيدة ألقيتها في افتتاح (مؤتمر الأدباء السعوديين الرابع) قبل أربع سنوات.