د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وإذا كان «تطبيق الشريعة الإسلامية» هو الجواب على السؤال الآنف الذكر، فإن أسئلة المقالة السابقة تجعل هذا الجواب يفترض برنامجاً متكاملاً، ويتطلب آلية تحول هذا الشعار إلى حقيقة مشاهدة، وكما ذكرنا من قبل، فإن التعدد في الإجابات على السؤال يفترض أن تكون هذه الآلية مختلفة حتى عنها، وتتفق مع الشعار بوجه عام.
وهذا ما قدمه المنتسبون إلى الجماعات الإسلامية حين قاموا بصياغة خطاطات نظرية تكون صورة المسلم/الفرد المناسب للانتماء لهذه الجماعات، وتمثل نظريات شاملة لكل مناحي الحياة تطمح أن يكون عليه المجتمع المسلم، بالانطلاق من تلك الآراء المبتسرة المنزوعة من سياقها التي أشير إليها من قبل.
وقد اختلف النموذج المثالي/ اليوتيوبيا التي انطلقت منه هذه الجماعات، فبعضها سلفي بحت يتوخى التتبع الدقيق لحياة القدماء (النموذج التاريخي) الذي يراه النموذج الصحيح، فيترسم آثاره في المأكل، والمشرب، وأسلوب الحياة، وطريقة الحديث، والنظر إلى الأمور. وهذا نموذج بالدرجة الأولى عملي تطبيقي، إذ رويت عنه مرويات تمثِّل أسلوب حياة قابل للتكرار.
ورأى بعضهم الكشف عن نموذج عصري جديد، يتوافق مع الحياة العصرية، وإن كان يعتمد الإسلام بوصفه نظاماً شاملاً لكل مناحي الحياة: صغيرها وكبيرها، ولذا سعى لأن يبني نظرية علمية يربط فيها هذه العناصر المختلفة برباط دقيق يجعلها تنطلق من الشريعة الإسلامية، ويؤسس منها برنامجه لجميع مناحي الحياة في السياسة، والاقتصاد، والتربية، والفن.
يقابل النموذج الأول أن الروايات عن ذلك العصر لا تتناول جميع مناحي الحياة، ففيها ما لا تكشف عنه تلك المرويات من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تطور الحياة الدائم يفرض حالة جديدة، وظروفاً ليست موجودة في الزمن الأول، مما يجعلها غير موجودة في تلك الروايات، أو تخالفها، ومن ثم لا وجود لها في ذلك المجتمع، وهو ما يعني قصور النموذج الأول عن التعميم على جميع مناحي الحياة.
إضافة إلى أن «الإسلام» بوصفه ديناً، كان خاصاً في مجالات ترتبط بعلاقة «الإنسان بربه» بالدرجة الأولى، ومن هنا جاءت جميع المباحث، والعلوم المتصلة به تدور حول هذه الحقيقة، وعنايتها بالنظام الاجتماعي بالانطلاق من هذه الزاوية. وأما ما لا يتصل بها اتصالاً مباشراً، فإن الغالب أن «الإسلام» لا يعنى بها.
«إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها».
وقد جاءت العلوم والمباحث منسجمة مع هذه الرؤية، فقسمت إلى علوم فقهية تبحث في الأحكام الشرعية في الغالب، وما فيها من حلال وحرام، وعلوم تبحث في العقيدة وما يمس أصل الدين بالانطلاق من تلك المرويات، والأخبار. كما حددت آليات معينة لحمل المواقف، والمستجدات على هذين الأصلين.
وهذه الرؤية للدين رؤية شرعية، والرؤية للأشياء رؤية فقهية، بمعنى من خلال الأحكام الشرعية، من منظور الحلال والحرام، أي من منظور تعبدي بالدرجة الأولى. هذا التعبد قد يكون الأمر فيه معتمدا على حق خاص فيه لله، يأثم من انتهكه، ولا يعاقب عقاباً ظاهراً، وقد يكون مرتبطاً بعقاب ظاهر.
تتسم هذه الرؤية بأن الحدود فيها ليست واضحة في قيمة الأفعال، فأقوال العلماء تختلف فيما بينها اختلافا كثيرا، والجدل فيها يظل جدلا خاضعا لفهم النصوص، وللظروف التي يخضع لها صاحب الرأي، ثم إن معطيات تكوين الحكم الشرعي كثيرة يأتي النص في مقدمتها ولكنه ليس الوحيد منها، إضافة إلى أن هذه الأحكام تتأثر بطرائق الفقهاء في التفكير والنظر المتمثلة بعد ذلك بأصول الفقه، والقواعد الفقهية، وهي قواعد مستنبطة من الوحي في الغالب، فليست بالضرورة صالحة لأن تطبق على غيره.
وتمثل إجابات الفقهاء فيه أصلا أصيلا في تكوين هذا المنهج، مما يسمى بـ»الفتوى»، وهي التي قد تغير تراتبية الحكم في سلم التشريع، وهذه الفتوى تعتمد بالدرجة الأولى على النصوص القديمة، وعلى اجتهاد صاحب الفتوى التي تتغيا في الأساس الحكم التعبدي السالف الذكر، ويأتي فيه الدنيوي/السياسي تبعا.
كما أن قيمة هذه الأحكام الحقيقية تتمثل بأفعال القلوب، فما يراه الناس صالحا قد لا يكون على حقيقته عند الله، وما يكون أقل من ذلك قد يكون هو الأفضل، وإذا كان الحكم على الظاهر فإنه لا يتصل بالعبادة، وإذا كان الحكم على الظاهر- كما يقول عمر- فإن المقصود به البين الذي لا جدال فيه، فيصلح أن يكون مجالا للحكم على الناس وتقويمهم: «الناس عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا في شهادة زور، أو ظنين في ولاء أو نسب».