حين أراد العبد الذي قتل تسعا وتسعين نفساً أن يتوب، وفي سبيل بحثه عن التوبة، أتته النصيحة «اخرج من القرية التي أنت فيها»، قد يكون عُني فيها أن تبتعد عن بيئتك الحالية لبيئة أخرى تستقبلك بلا أي مسبق أحكام ولكنها قد تعني أيضا أن تتعلم أكثر، إصرارك على هذا الفعل (القتل) لربما كان نتيجة لمحدودية الثقافة وبالتالي معرفتك التي تكتسبها في هذه القرية فالآية الكريمة « وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» تعني أن تخرج من قريتك المعرفية للعالم للقرى والثقافات الأخرى حيث ترى مجالات ومدى من المعرفة والعلم ما يمكنك أن تنهل منه و تزداد ثراء فيثرى عقلك وبالتالي سلوكك حيث تستطيع الذهاب به لأفضل مما أنت الآن.
يعني حديثي تماماً من كان له تجربة عمل مع جنسيات وثقافات متعددة التي تختزل في اجتماع عمل وأثناء العصف الذهني تقودك لقيم أخرى لنفس الاتجاهات التي نمضي بها عادةً، كأن نرى الطلاقة في الحديث بالفصحى لا يؤتي ثماره في الحوار مع العملاء ولكن حين تأتيك جنسية أخرى وتبين قدسية الفصحى في شعبها أو تتحدث لك أخرى عن عظمة الأشخاص الذين بلغوا مبلغهم من العلم يلهمونك بالأثر الخفي لطريقة حديثك وانتقائك للكلمات مع العملاء والتي تعكس علمك.
كما أن العمل مع الأشخاص الأكبر سناً يختزل تجربة عقود من الزمن في عالم الأعمال ويسقونك سنينهم من المعرفة التي تقفز بك درجات وسلالم في وظيفتك في حين زملاء عملك الشباب مازالوا يتراجعون بأحاديثهم في حدود الحياة الجامعية. أيضاً إدراك التباين في الأخلاقيات المهنية بين الثقافات والشعوب يصنع لنا شيئاً آخر وقيمة احترام فارقة إذا ما كنّا بأخلاق الإسلام نعيش تعاملاً وعملاً. فالاندماج مع الثقافات الأخرى لا يعني إجبارهم على ثقافتك ولكن تَفهمُ ثقافتهم وتُفهِمهُم ثقافتك ويظل الاحترام والتسامح قائماً. فتعدد الثقافات آية الله في الأرض وغايته لتعارف الناس بينها وذلك الاختلاف يعني وجود ما تراه حسناً وما تراه سيئاً في الثقافة الأخرى، وهنا الأمر يبقى لذكائك الاجتماعي فحين تركز على الجانب الجيد و تُعَاظِمُه فيها مع بقائك يقظاً من الجانب الآخر ستكون حياتك عامرة وثرية بحسنات كل ثقافة تلتقي بها فتكملك.
تقوقع المجتمعات على نفسها يجعلها محدودة مهما بلغ تقدمها التقني وأساليبها الأخرى ما لم تنفتح على رؤى وثقافات عديدة و تبني قاعدة من العدالة والاحترام الثقافي في أجيالها منذ الصغر، كل هذا التنوع يحتاج لإدارة جيدة وقائد بارع يمكن الكل من الاندماج معاً واستخلاص المزايا في كل منهم فيكون قادرًا على تقليل حدة الصدمة الثقافية ويُصبح تبادل المعرفة والخبرات فعالاً بينهم، إن كنت هاملاً في الحياة أو العمل بلا إدارة و قيادة تَذهبُ كل هذه الفوائد أدراج الرياح، فيكون كأنك خرجت من القرية ودخلت لها من باب آخر.