د. عبد الله المعيلي
من روائع عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- «الأموات محبوسون في قبورهم، نادمون على ما فرطوا، و»الأحياء في الدنيا يقتتلون على ما ندم عليه أهل القبور!، فلا هؤلاء إلى هؤلاء يرجعون، ولا هؤلاء بهؤلاء معتبرون».
هذه حال الأحياء بكل أسف وأسى، الكل لاهٍ يلاحق ضحضاح سراب لامع براق، وراء متع النفس وشهواتها التي تظل تلاحق الإنسان، وتشغل باله واهتمامه، ومما زاد اللهث في هذا الزمان تعدد الشهوات، وتنوع صورها وأسمائها، وتيسر الحصول عليها، كل ما يتطلبه الأمر اتصال هاتفي على مطعم أو مقهى، وما هي إلا لحظات وموصل الطلب يبادر إليك مسرعاً مثل سرعة البرق.
حقاً إنهم يقتتلون على ما ندم عليه أهل القبور، تفريط وغفلة عن طاعة الله كما أمر بذلك سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وما حث عليه الهادي الأمين من سبل الخير وأعمال البر، أشغلتهم الدنيا، جعلوها ذات أولوية طغت على جل سعيهم وأعمالهم.
إنهم يلهثون وراء حب المال والاستزادة منه، إلى درجة أن البعض لا يبالي بنظام، المهم عنده أن يحقق المزيد، والمصيبة العظمى، والطامة الكبرى، إن كان الحصول على المال بطرق غير شرعية أو نظامية.
كثير من محبي الاستزادة من المال تباغتهم الدنيا بين عشية وضحاها، بمصيبة الإفلاس من كل شيء، وبسرعة البرق، عندئذ يصحو من سكرة المال ويندم على ما فرط فيه، ولكن لات ساعة مندم، ويبدأ يحاسب نفسه ويحدثها، بكل ألم وحسرة وندم، أمعقول أن يحصل لي كل هذا؟ أين أموالي؟ الآن أنا صفر اليدين، حتى ضرورات الحياة اليومية لم أعد أقدر على توفيرها، وتتبدل الحال، وتنعكس سلباً على أسرته، وتتوتر العلاقة بينه وبينهم، لا سيما عندما يطالبونه بما كانوا تعودوا عليه، ويرد عليهم.. لا أستطيع، كيفوا أنفسكم على الوضع الجديد. بطبيعة الحال، لا يقبلون بل لا يستطيعون، فقد تعودوا على مستوى معيشي معين يتعذر عليهم نسيانه، أو العيش دون مستواه.
ومما يزيد الطين بلة، أن ذهن المسكون بحب المال، مشغول دائماً، مهموم طوال وقته، ما إن يخرج من دائرة إلا ويدخل أخرى، حتى وإن حاول خاصة في أوقات العبادة، فالبعض من هؤلاء وحالما يكبر للصلاة، إلا ويبدأ في سرقة الصلاة، حيث يخرج من حالة الخشوع التي يجب أن تلازمه كل صلاته، لأنه يقف بين ملك الملوك، ولكنه هم جمع المال يأسره ويخرجه لا إرادياً من صلاته، إلى دوائر فرص المال التي يجب أن يخوض غمارها ويفوز بواحدة منها.
تحل مواسم الخير وأوقات الزكاة، وتتاح له الكثير من فرص الصدقات، لكن يغلبه التراخي والتسويف، وتمر الأيام وهو يغوص في التمتع باللذات والشهوات، فينسى أن يزكي أو أن يتصدق، وتتراكم عليه السنوات وهو لم يبرأ ذمته من أداء فرض الزكاة، وبين لحظة وأخرى، قد يفاجئه مرض يقعده، أو إفلاس يفقده كل ما جمعه وحصله، يتلفت يمنة ويسرة عله يعوض ما فات، لكنه لا يستطيع، عندئذ يغرق في هموم وندم على ما فرط فيه وتأخر في أدائه مما فضه الله عليه من عبادات وطاعة وهي الباقيات الصالحات التي يحقق بها ما ينال رضا الله ورحمته، والفوز بالجنة.
السعيد من يعتبر من حال الأموات التي يتمنون فيها سجدة لله لكنهم مرهونون في قبورهم، لا يقدرون على زيادة في الحسنات أو محو للسيئات.
جد أيها المسلم واجتهد ما دمت حياً، وإياك أن تغتر بالدنيا وزخارفها ومتعها، فمهما بلغت من الاستمتاع فيها فهي ظل زائل لا محالة.