د.عبدالله مناع
حرمتني ظروف شخصية قاهرة.. من المشاركة في فعاليات: (شهر الفرانكفونية) الذي نظمته قنصلية فرنسا العامة في جدة على مدى أربعة أيام من شهر مارس -الجاري-: من الثالث عشر.. إلى السادس عشر منه.. بدعوتها للأديب الفرنسي (أوليفيه رولان).. والأديب (الفرانكفوني) اللبناني الأصل (شريف مجدلاني).. والرسام (الفرانكفوني) -المصري الأصل- محمد شناوي، ودعوتها في المقابل لعدد من الكتاب والروائيين السعوديين الأشهر (الأساتذة: عبده خال، أحمد أبو دهمان، عبدالله ثابت).. لـ(التعارف) بين الجانبين الفرنسي والسعودي، والتحاور، والتشاور بينهما فيما يخص قضايا النشر والترجمة والتوزيع وهمومهم، يتبعه لقاء للطرفين: (الفرنسي والسعودي) بجمهور المدعوين من أصدقاء القنصلية من المعنيين بـ(العلاقات) الفرنسية السعودية عموماً.. وبـ(اللغتين): الفرنسية والعربية وآدابهما خصوصاً.. وهو ما كنت أخشى أن لا يستجيب له إلا قلة قليلة من السعوديين.. نظراً لطبيعته الثقافية المحضة، ليفاجئني الأستاذ عبدالله ثابت -عند سؤاله- عن أعداد الذين شاركوا في تلك (الليالي الفرانكفونية): بأن منزل القنصل وحديقته اللتين استضافتا فعاليات تلك الليالي.. قد فاضتا بـ(المدعوين) إلى الشارع المطل عليه منزل القنصل وحديقته، ليكون مسك ختام تلك (الليالي الفرانكفونية).. بعد زيارة الأدباء الفرنسيين و(الفرانكفونيين) لـ(المدرسة الفرنسية العالمية)، ولـ(كلية: دار الحكمة)، ولـ(جامعة الملكة عفت): عشاء من الأطباق الفرنسية التقليدية الشهيرة.. ليجتمع حول مائدتها: هواة الأدب وهواة المطبخ الفرنسي الذي تدير أطباقه الرؤوس، ولا تكتفي بإسالة لعاب.. أفواه عشاقه والمهووسين به..!!
* * *
لكن حرماني الاضطراري.. من المشاركة في فعاليات تلك (الليالي الفرانكفونية): مستمعاً ومحاوراً.. لا يحرمني -بالتأكيد - من حقي في الحديث عن (الفرانكفونية)، و(منظمتها) التي ولدت في ثمانينيات القرن الماضي.. مع مجيء الرئيس الديجولي: (جاك شيراك) إلى قصر (الإليزيه) وسنواته الاثنتا عشرة فيه، لتلعب دور الرد على (أمركة) العالم الذي كانت تقوده بشراسة وشراهة الولايات المتحدة الأمريكية.. بـ(السينما) و(الجينز) والـ(الكوكاكولا) وسلسلة مطاعم (ماكدونالدز)، فكان أن قامت (منظمة الفرانكفونية).. برئاسة (شيراك) وأمانة (السوربوني) الدكتور (بطرس غالي) الذي يقرأ ويكتب الفرنسية ويتحدث بها كأنه أحد أبنائها.. حيث تم اختيار (القاهرة) لتكون مقراً لها.. لكي تتصدى لطوفان (الأمركة) بـ(الأدب) و(الفلسفة) والشعر والمسرح الكوميدي الفرنسي، وبـ(الأزياء) والملابس والأحذية والعطور والأثاث (اللويسي) الفاخر، وبـ(الأدباء) الفرنسيين عموماً.. الذين كانوا ملء السمع والبصر على مستوى العالم من أقصاه إلى أقصاه في ستينيات القرن الماضي وما قبله وبعده، فليس هناك من لا يعرف الأديب الفرنسي (أندريه جيد) ومشاغباته الأدبية مع (طه حسين)، وليس هناك من لا يعرف الأديب الفرنسي (أندري مالرو) وزير الثقافة الفرنسي الدائم في كل الحكومات التي شكلها الرئيس والزعيم الفرنسي الأشهر (شارل ديجول) طوال سنوات حياته السياسية، أو قرأ مسرحيته الأعظم (قناع السعادة) أو كتابه الوداعي الرائع لزعيمه وصديقه الرئيس ديجول: (ديجول وأنا)..! وليس هناك من لا يعرف الروائية الشابة آنذاك (فرانسواز ساجان) وروايتها الرائعة (صباح الخير.. أيتها الأحزان) أو (قصر في السويد) أو (ابتامة ما)، وليس هناك من لا يعرف الروائي الفرنسي (ألبير كامو) وروايته (الغريب)، وليس هناك من لا يعرف الفيلسوف والروائي والكاتب الفرنسي الأشهر (جان بول سارتر) أو أياً من أعماله الكثيرة كرواية: (الغثيان) أو كتاب: (الوجود والعدم) أو ثلاثية سيرته الذاتية في (دروب الحرية) أو آخر كتبه (الكلمات)، الذي لخص في ختامه بتلك اللغة السيمفونية الرائعة حياته وجماع أيامه.. قائلاً: (فماذا يتبقى. إنسان بكله.. مصنوع من كل الناس. يساويهم جميعاً.. وأي واحد فيهم يساويه)..!!.
لقد استخدمت (الفرانكفونية).. كل هذا الحشد الثقافي الأدبي الفرنسي الناعم.. إلى جانب أنماط حياتها وذوقها الجميل في مطاعمها ومقاهيها وملاهيها.. لتتصدى لموجة (الأمركة)، التي تضاعف اندفاعها مع سقوط (الاتحاد السوفييتي) في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
فإذا لم تستطع (الفرانكفونية) في النهاية.. أن تقضى على موجة (الأمركة) قضاءً تاماً.. إلا أنها حجمتها، وحدت من قوة اندفاعها.. بل وأسقطت عنها هالة (النموذج الأمريكي) المثل عند كثير من شعوب العالم، وقد ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية -نفسها- بـ(عنجهيتها) وغرورها وبـ(عقوباتها) التي كانت تفرضها على كل من يخالفونها الرأي على سقوط تلك الهالة عنها، ثم بما فعلته في مطلع الألفية الثالثة بـ(غزوها) لأفغانستان والعراق.. رغم معارضة العالم كله، ورغم أنف الجمعية العامة للأمم المتحدة.. ومجلس أمنها، وبمواقفها (العنصرية) الأخيرة المتردية من وثيقة (حقوق الإنسان)، التي كانت ترفعها في الماضي ضد انتهاكات خصومها بـ(الباطل).. ويصدقها العالم!!.
* * *
لتبقى (الفرانكفونية).. وإن لم تكن بـ(وهجها) وزخمها القديمين عند انطلاقتها.. لأنها عميقة الجذور.. عظيمة الاعتداد بـ(أنماط) حياتها الفرنسية و(لغتها) وثقافتها وآدابها وأدبائها.. من فولتير وموليير إلى فيكتور هيجو وإميل زولا.. إلى كوكبة أدباء الستينيات الذين استرجعت أسماؤهم وبعض أهم أعمالهم الأدبية والفلسفية من قبل، وهو ما يحتم عليَّ عدم تناسي مؤسس الجمهورية الفرنسية الرابعة: الجنرال شارل ديجول نفسه.. كواحد من جذور (الفرانكفونية) التي ظهرت بعد وفاته بأكثر من عشر سنوات، فقد كان أديباً.. بأكثر منه عسكرياً، وفناناً بأكثر منه سياسياً، ولعل كتابه (النفير) بلغته الأدبية الفرنسية الباذخة - وهو يتحدث عن أنوار مساءات (باريس) التي تصل إلى السماء والتي كان يراها من مدينته (ليل) المجاورة لها.. وعن صباحاتها وغيوم (سانت كلود) التي كانت تتجمع في أيام خريفها فوق (نوتردام)، والذي روى فيه أطرافاً من قصة حياته.. وذكرياته عن الحرب العالمية الثانية وأيامها التي خاضها من (لندن) بداية، ومن المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا وآسيا.. تحت شعار: (أنا فرنسا.. الحرة) - خير دليل على تلك الروح الأدبية التي كانت تستغرق (ديجول).. وتسيطر على فكره.. وقلمه، والتي جعلته وهو ما فعله. وهو يزور أحد مباني العاصمة (باريس) الجديدة أن يطلب من مصممه: أن يضع بيتين من شعر (فيكتور هيجو) على واجهة المبنى؟؛ ففعل (المصمم) ذلك.. إلا أنه نسي أن يضع اسم الشاعر (هيجو) تحت البيتين، إلى أن جاء يوم افتتاح المبنى ليكتشف ذلك أحد الصحفيين.. فيعلق (ديجول) على اكتشافه بكل الاعتداد بـ(هيجو) وشاعريته.. قائلاً: (من لا يعرف أن هذين البيتين من شعر «هيجو».. فليس فرنسياً)؟! أو كذلك اليوم من أيام الحرب العالمية الثانية وهو يتفقد الجبهة العسكرية الفرنسية في صحراء الجزائر.. عندما سأله الأديب الفرنسي الفنان (ألبير كامو): (كيف للأديب الفرنسي.. أن يخدم فرنسا)..؟ فأجابه (ديجول) بتلك الإجابة الرائعة والمعلمة: (كل أديب يكتب جيداً.. يخدم فرنسا)!!.
* * *
بهذه الأنفاس الثقافية الأدبية.. الضاربة جذورها في أعماق التاريخ الفرنسي.. عاشت (الفرانكفونية)، وإلى الحد الذي تدعونا فيه قنصليتها العامة في جدة إلى (فعاليات) أدبية ثقافية حولها، تجمع فيها بين الأدباء الفرنسيين والفرانكفونيين والسعوديين.. في حوار ثقافي أدبي تفاعلي مشترك بامتداد تلك الأيام والليالي الأربعة من شهر (مارس).. شهر (الفرانكفونية).
لقد كان بديل غيابي الاضطراري عن المشاركة في تلك الليالي.. أن نقلت ترحيبي بـ(المناسبة) وبالأدباء الفرنسيين والفرانكفونيين.. الذين قدموا من (باريس) خصيصاً للمشاركة فيها.. عبر ملحقهم الثقافي (الفرانكفوني) النبيل الأستاذ كريم معتوق، وعبر سكرتارية القنصلية.. التي تديرها بكفاءة وحيوية واقتدار: السيدة سلمى أتاسي، وفي عزمي أن أكرر ذلك كتابة، لأقول لهم بعربيتي: مرحباً بـ(الفرانكفونية) ومرحباً بكم.. وبـ(فرنسيتي) التي استعرتها من أحدهم: (بيان فينو)..!!.