د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
اختارت بعض دول العالم أن يكون الواحد والعشرون من مارس هو يوم الأم، ربما لأنه اليوم المؤذن ببداية موسم الربيع، مع أن دولاً أخرى اختارت مواعيد أخرى. ليس هذا هو المهم. المهم هي الأم نفسها. فما الذى يعنيه لها هذا اليوم؟ قد تشعر بالسرور إذا بادرها أولادها بهدية ما، ليس لأن الهدية في حد ذاتها قيّمة، بل لأنها قُدّمت لها من أحب الناس إليها. هذا يكفيها لذلك اليوم؛ ثمّ تعود الأيام لما كانت عليه من قبل، وكما تعوّدتها منذ أن حملت بأول أطفالها، كثير من التعب وقليل من الراحه. لكنها تطمئنّ حين تتعب لأن برد حبها يطفئ حمّى تعبها، وتقلق حين ترتاح لأنها تخاف أن تغفل عن أولادها. وماذا عنهم - أي الأولاد؟ إنهم أيضاً يحبونها ويطيعونها، ويريدون أن يكسبوا رضاها وأن يفعلوا كل شيء يسرّها - إن استطاعوا. ولكنهم لن يستطيعوا أن يوفوها حقها، فقد عاشت من أجلهم وكانت ينبوع حياتهم. فقد حملت بهم وولدتهم وأرضعتهم وتولّت تغذيتهم وتربيتهم. ولما كبروا غادروها إلى دنياهم الخاصة، وأشركوا مع حبهم لها حبهم لزوجاتهم وأولادهم، لكنهم لا يغادرون قلبها، بل تضمّهم فيه إلى أن تغادر هي الدنيا. فيومٌ واحد في العام يعبّر فيه الأولاد عن حبهم لأمهم لا يكافئ آلاف الأيام التي أحبتهم فيها ولم تطلب فيها مكافأة لنفسها. إلاَّ أن المكافأة وصلتها من ربّ العباد، كما جاء في الذكر الحكيم: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (23) سورة الإسراء. وجاءت السنّة النبوية لتؤكد للأولاد على لسان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن أولى الناس بصحبتهم هي الأم ثم الأم ثم الأم ثم الأب. لذلك دعونا نبحث عن معنى آخر لتكريم الأم يكون أشمل من التعبير عن عرفان الأولاد لأمهم بالجميل وحبهم لها. إنه عرفان المجتمع بأسره والوطن كله بمنزلة الأم ودورها وأثرها في نماء المجتمع وبقائه. يروى للتاريخ توماس إديسون - مخترع المصباح الكهربائي وأشياء أخرى كثيرة - أنه لم يعرف إلاَّ بعد وفاة أمه أن المدرسة الابتدائية التي كان يدرس فيها قد كتبت لأمه أن ابنك غبي جداً وفاشل، ومن الأفضل أن يترك المدرسة. لكنَّ أمه أخفت عنه الرسالة وقالت إن المدرسة ذكرت أنه ذكيّ جداً ومتفوّق وليس في حاجة للبقاء في المدرسة. وبدأت تدرّسه بنفسها، فتشرّب ذهنه الصغير جفاف العلم مع عذوبة حنان الأم حتى نبغ وأكمل تحصيله الدراسي لكي ينير العالم فيما بعد بمباحه الكهربائي. وكتب على الرسالة التي وجدها في خزانة أمه (لقد صنعت أمّي من طالب غبي مخترعاً عبقرياً). فأي فضل للأم على العالم أفضل من رسم هذه الصورة المضيئة؟ لكننا في عصرنا الحاضر - وفي وطن إديسون نفسه - قد نرى صورة مغايرة مظلمة ترسمها من لا تريد أن تكون أمّاً. يذكر الكاتب الأمريكي والسياسي اليميني المحافظ (باتريك بوكانان) في كتابه (موت الغرب- صدر عام 2001) أن إحدى السيدات أجابت على سؤال أحدهم لماذا لا ترغب في الإنجاب بقولها إنها تريد أن تستمتع بحياتها ولا تريد أحداً يزعجها في نومها. أورد الكاتب هذه الحكاية كمدخل لحديثه عن العوامل المؤدية في المدى الطويل إلى موت الغرب، ومنها العزوف عن الإنجاب وتراجع مؤسسة الزواج والأسرة لصالح علاقات خارجة عنها بين الجنسين. وأورد أمثلة لتقلّص عدد السكان من دول عدّة، من بينها ألمانيا التي وصل فيها معدّل الإنجاب في الأسرة الواحدة إلى (1.4) طفل، بينما يلزم أن يكون المعدل (2.1) طفل لكي تحافظ على عدد سكانها المواطنين - أي 82 مليوناً، وبذلك سوف تفقد ثلث سكانها عام (2050) إذا لم يتغيّر الحال. وسوف تزداد نسبة كبار السن في المجتمع بحيث تصبح أعلى من نسبة ذوي الأعمار الشابة القادرة على العمل. واليوم نرى فعلاً أن البلد الأكثر سكاناً في العالم - مليار ونصف تقريباً - وهي الصين التي فرضت تحديد النسل بطفل واحد للأسرة، قد بدأت في إرخاء سياستها المتشدّدة تلك، نتيجة لتزايد نسبة التشيخ وانفجار الثورة الصناعية وحاجتها إلى قوة العمل الشابة. باختصار: الأم تنتج قوة عمل لنماء المجتمع قادرة على العمل والإنتاج.
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
(من قصيدة لحافظ إبراهيم)
هنا نتساءل: على من يقع واجب التكريم؟ معظم الدول - ومنها دولتنا الغالية - تصدر قوانين ترعى حق الأم في جوانب كثيرة، لكن هل تكفي؟ بلادنا لا تشتكي من قلّة الإنجاب، وأيضاً لا تعاني من كثرة السكان - كما في مصر أو بنجلادش مثلاً، فلنحمد الله. ولكن - كما جاء في الحديث الصحيح (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) - أين نحن من شكر الأم، ونحن لا نعطيها إلاَّ الحد الأدنى مما تستحقه؟ إجازة الأمومة للأم العاملة لا تُعطى إياها إلاَّ لمدة شهرين بعد الولادة، ولا تُعطى عن الحمل قبل الولادة شيئاً إلاَّ بتقرير طبي! وإذا أرادت إجازة لرعاية طفلها تُعطى إجازة لحين بلوغ الطفل ثلاثة أعوام بربع الراتب فقط. وللمقارنة فإن الموظفة التي تبتعث للماجستير وربما الدكتوراة - مما يستغرق أحياناً ست سنوات - يصرف لها نصف الراتب الأساسي مضافاً إليه مكافأة البعثة وراتب للمرافق، مع أنها تشغل الوظيفة ولكن لا تمارسها. فما الذي يوجب هذا الفارق الكبير، وفي كلا الحالين خدمة للوطن ونماء للمجتمع؟ يتمثل تكريم الدولة - وطناً ومجتمعاً- للأم العاملة في الوقوف بجانبها عند رعايتها لطفلها الصغير، إما بالتوسع في إنشاء دور الحضانة مع تحمّل الدولة لتكاليفها إذا كانت الأم غير مجازة، أو صرف نصف الراتب أسوة بالمبتعثة إن كانت مجازة. وما ينطبق على الأم العاملة تحت مظلّة نظام الخدمة المدنية جدير بأن ينطبق على أختها في نظام العمل. وقد يكون الأنفع والأعدل من هذا وذاك أن تمنح الدولة لكل أم علاوة أطفال، لأن هذا سيشمل أيضاً الأمهات غير العاملات؛ وفي الوضع الحاضر فإن راتب العامل أو الموظف ذي الولد لا يختلف عن غيره. ما ذكرته آنفاً هو مثال لما يمكن أن يكون عليه وقوف الدولة بجانب الأم تكريماً لها زيادة على ما تقدّمه لها حتى الآن. لم أتحدث عن الوقوف بجانب الأم المطلّقة في استحصال حق حضانة أطفالها ونفقتهم مهما كبروا ما دامت لم تتزوج، ولا عن تحمّل الدولة أو صاحب العمل أو شركة التأمين لنفقات علاجها عن مضاعفات الحمل والولادة مهما بلغت، ولا عن الأم المعلّمة التي ترعى أطفالاً من حيث أولويتها في اختيار مكان قريب من أطفالها عند التعيين أو النقل لتحاشي أخطار السفر البعيد وما قد تسبّبه لهم من معاناة، إلى غير ذلك من الأمثلة. إن الأمومة السعيدة تنجب أجيالاً سعداء.