د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** عايش من سبقنا مراحل إنتاج الصحف عبر صف الحروف يدويًا بتقنية الرصاص - إن جاز إسماؤها - وعشنا أسلوب الشرائح والقص واللصق بالصمغ حتى ظهر برنامج «الناشر الصحفي» قبيل منتصف التسعينيات الميلادية الذي عُدَّ فتحًا قاد الصِّحافة إلى فتوحاتٍ ما نزال نشهدُ امتداداتها وتحولاتها.
** لم يطل المدى حتى جاءت ثورة العالم الشبكي»الإنترنت» ففاقت - في تأثيراتها - الثورة الصناعية الأولى نهاية القرن الثامن عشر بمعطياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ورأى آخرون أنها الموجة الرابعة بعد ثورة الإنتاج المتعدد أول القرن العشرين وثورة الصناعة الرقمية في خاتمته، واليقين أنها عواصفُ لم تبقِ ولم تذرْ.
(2)
** لا يعي من يعيش زمن الثورة ثوريتَها؛ حيث الجميعُ مشاركٌ في مدخلاتها أو جزءٌ من مخرجاتها، وقد يبدو تقويمه لها غيرَ متساوقٍ مع أبعادها؛ فحين تزامنت حركتا جهيمان والخميني لم يرهما أناس الثمانينيات بحجم إفرازاتهما المذهبية والمجتمعية، واكتفى الأكثرون برصدهما حركتين دينيتين سياسيتين متشددتين، والحق أنهما ثورتان لُجمت الأولى حضورًا وتجذرت منهجًا، وتُوجت الأخرى فصارت دولةً ،وازداد الصراعُ «الرسمي والشعبي» بينهما كما لم يكن موجودًا بالحدة نفسها قبل قيامهما، وهو الجزء الأقلُّ شأنًا إزاء تأثر البناء العام للدولة المستقرة والثورة المستفزة.
** وبالمثل؛ فقد تعاملنا مع الثورة الرقمية أو الموجة الرابعة من الثورة الصناعية على أنها معطياتٌ تقنيةٌ مجردةٌ قادتنا إلى منجزاتٍ علميةٍ يسرت الصعب وقربت النائي ووصلت العالَم، والحق أننا لن ندرك تأثيراتها العميقة مجتمعيًا إلا بعد حين؛ فقد خلخلت البيت والشارع والمدرسة والإعلام والمواقف والحرام والحلال والممكن والمستحيل والتوقع والتقوقع والاحتساب والارتياب والشك واليقين.
(3)
** نعود إلى الصحافة التي أفادت من التقنية وخسرت مواقعَها أو كثيرًا منها، ليس بسبب الورقي والآلي كما يشيع المتابعون؛ فالتحول الرقمي للمؤسسات الورقية أمر في متناولها بل هي المبرزة فيه والقائدة له سواءٌ أواكبته أم تأخرت عنه، لكن الأمر مرتبطٌ بما هو أبعد من هذا حين أتاحت الثورة الشبكية للجميع دون استثناء أن يكونوا كتابًا ومحررين ومحللين وإذاعيين دون قارئين.
** ليس الأمر مقتصرًا على الصحف والمجلات بشكلها المعهود؛ فالإذاعة تراجعت، والتلفزيون ضعف، وكثير من محطاتهما التجارية تداعت، وربما أُقفلت، وظهرت وتظهر بدائل ستحل محل الوسائط التقليدية المسموعة والمرئية،وفارق بين زمنٍ كان فيه التلفزيون موئل الكل وزمنٍ لا يأبه به إلا قليلون.
(4)
** لم يعد الإعلامُ بوسمه الذي خبرناه منذ انطلق صوت الإذاعة وظهرت شاشة التلفاز موجودًا إلا في بعض التنظيمات الإدارية، ومسيرُه أو مصيره الاختفاء ربما قبل أن تتوقف الصحافة الورقية التي نعيناها قبل مماتها، وستنطلق الموجة الخامسة عاجلًا أم آجلًا ؛ فالأيام حبلى وستلد.
(5)
** الموجُ لا يعبأُ بالمبحرين.