عندما كنت أدرس دراستي العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، أذكر أن أحد أعضاء هيئة التدريس المتميزين عندما أصبح عميدًا لكلية الهندسة التي كنت أدرس فيها، قد حقق لها دخلاً زاد بـ 50 في المائة عن السابق. بعد عودتي وممارسة العمل الأكاديمي والإداري، أدركت سر نجاحه، فقد كان ذلك العميد ببساطة «قائدًا ناجحًا». أدركت أنه فهم دوره الإداري والقيادي بكل اقتدار، فهو لم يشغل نفسه بالعمل الإداري والأكاديمي والولوج بدهاليز الكلية الإدارية التي هي أعمال روتينية وهناك من قد يقوم بها وفقًا للصلاحيات الممنوحة والهيكل الإداري التنظيمي كوكلاء الكلية أو غيرهم. أدركت أن دوره كان يركز على تحقيق أهداف وإستراتيجيات الكلية باستخدام إمكاناتها العلمية والبحثية، وإبراز وإقناع الآخرين بقدرات أساتذتها البحثية واستطاعتهم المساهمة بحل المشكلات الهندسية والتقنية في القطاع الصناعي. كما أدركت أن قيمة البحث العلمي الحقيقية هو مدى مساهمته في التنمية والتقدم والمعرفة ليس للترقية العلمية فقط، وأن قوة وسر تقدم الغرب الصناعي والتقني هم هؤلاء القادة المدركون لأدوارهم.
لست بصدد الإسهاب بذكر الفارق بين القائد والمدير، فـ»جوجل» كفيل بتوضيح الفروق بينهما بكل تفصيل، إلا أنه باختصار المدير يُدير العمل وفقًا للصلاحيات الممنوحة له، ويركز على النظام والإجراءات، أما القائد يركز اهتمامه على الأهداف والأمور الإستراتيجية، يبحث عن المفيد لمؤسسته وفقًا لرؤية مستقبلية، يمتلك روح المبادرة والإبداع والتحفيز والإلهام، يعمل بروح النظام، وقريب للجميع.
إحدى الدراسات خلصت بأن مهام العميد الأكاديمي تتركز في ثلاثة أنشطة ليكون قائدًا فاعلاً؛ عليه أن يبني مجتمعًا للباحثين (علماء)، ويضبط الاتجاه، ويمنح الصلاحية للآخرين.
فدور العميد (القائد الأكاديمي) من أصعب الأدوار الوظيفية وأهمها في الجامعة، فجُل عمله خارج الكلية؛ يبحث عن الفرص ويقتنصها لصالح الكلية ويطرق الأبواب لزيادة مداخيلها من خلال مخرجاتها العلمية والبحثية، يعمل كمشرف ومراقب ومنظر وضابط لجودة الكلية من بُعد، يُسخر جميع الإمكانات للحصول على المعرفة وتطويرها، يعمل على تحسين البيئة الأكاديمية والبحثية لمخرجات أفضل ومنافسة، يُطور شبكة موارد بشرية داخلية تربط الكلية بالمجتمع الخارجي سواء داخل الجامعة أو المجتمع المحلي والدولي في شقيه القطاع الحكومي والقطاع الخاص. ومن الملاحظ أن العالم الأكاديمي قد تغير تغيرًا كبيرًا عن القرن الماضي، مما تطلب تغيرًا في عقلية القيادية الأكاديمية لتتعاطى مع التوجهات الجديدة ومتطلبات المرحلة، كجذب التمويل ودعم الأبحاث وإدارة الاستثمار والأوقاف وتنمية مهارات العاملين والتعاون مع صانعي السياسات والاستراتيجيات، ومهارة التعامل مع وسائل الإعلام الجديد واستثمار شبكات التواصل الاجتماعي...الخ.
والجامعات الحكومية بمكوناتها الرئيسة (الأقسام والكليات والعمادات المساندة)، التي وصل عددها إلى ما يربو على 30 جامعة، هي إحدى المرتكزات الرئيسة والقلب النابض لتنمية البلد كونها توفر جُل القدرات البشرية التي تسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. فهذا النمو الكمي المتمثل في عدد الجامعات وزيادة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والخريجين والتوسع ببرامج الدراسات العليا..الخ، لم يواكبه نمو كيفي في القيادات الأكاديمية الذي قد يكون بسبب الافتقار لمنهجية علمية واضحة لتأهيلهم وغياب الأطر الموضوعية المنظمة لاختيارهم. ومما سبق يتضح لنا الحاجة لضبط اختيار القيادات الأكاديمية وتأهيلهم على كافة المستويات لرفع كفاءة وفاعلية المؤسسة الأكاديمية للإسهام في تحقيق رؤية المملكة 2030 والتوجه نحو استقلال الجامعات. لذا، قد يكون من المناسب الإشارة أو تضمين معايير اختيار القيادات الأكاديمية - إن لم يُشر لها- في نظام الجامعات الجديدة أو لوائحه الذي في مراحله النهائية لإقراره.