حائل - خاص بـ«الجزيرة»:
نبّه متخصّص في العلوم الشرعية إلى أن منهج السلف ليس ملكاً لأحد يخرج منه مَن شاء، ويُدخِل فيه مَن شاء، وليس حزباً يُحصر في أشخاص، ينسبون أنفسهم للسلف ادعاءً، لكنهم يخالفون منهج السلف حقيقة وواقعاً، فأصبحوا حزباً كالأحزاب، يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب اللّه عليه، ويرضون عمّن يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، موضحاً المقصود بمنهج السلف: هو المنهج النبوي، الذي سار عليه صحابة رسول الله من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
فكلُّ مَن سار على منهج السلف فهو سلفي، فالعبرة بالاتباع للسلف بإحسان، وليس بالدعاوي التي تُكذبُها الأفعالُ والأقوال والمواقف.
وأوضح د. أحمد بن جزاع الرضيمان أستاذ العقيدة المشارك في جامعة حائل في حديثه عن منهج السلف في فقه الثوابت والمستجدات أنّ منهج السلف يشمل كل من سلك الهدي النبوي من عوام المسلمين وتجارهم وفقرائهم وعلمائهم، ولا يخرج عنه إلا من أخرج نفسه عنه، بارتكاب ما يخالف أصول العقيدة الصحيحة التي تمسّك بها السلف الصالح، وساروا عليها، وهي الالتزام بما جاء في الكتاب والسنة وفهمهما، كما فهمهما السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم.
وشدّد الدكتور أحمد الرضيمان على الثوابت وهو كُل ما ثبت في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت، ليس لأحدٍ تغييره، فأركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة هي ثوابت، وكذلك القيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام هي ثوابت، فالعدل والصدق والأمانة والعفة ونحوها ثوابتُ لا تقبل التغيير والتبديل، وكذلك القواعد الأساسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جاء بها الإسلام، مثل التعامل مع الحاكم المسلم بالنصح له، وعدم الخروج عليه، والسمع والطاعة له بالمعروف، هذه ثوابت، سار عليها السلف، ولم يخالفها إلا من انحرف عن منهجهم، وكذلك في الاقتصاد: من الثوابت تحريم الربا، وقد أعلن ذلك رسول الله في حجة الوداع، وقال إنه تحت قدميَّ موضوعٌ، فليس لمسلم أن يبيح الربا، بحجة أن المستجدات والمتغيرات تقتضي إباحته، وتسميته فوائد، لأن تحريم الربا والخمر ونحوهما من الثوابت، مهما سُميت بغير اسمها، وهكذا في الشؤون الاجتماعية والأسرية، فالزواج هو الطريق الشرعي مثنى وثلاث ورباع، هذا ثابت من الثوابت، وأي علاقة بين الرجل والمرأة تخالف ما جاء في الكتاب والسنة، فهي باطلة، لأنها تخالف الثوابت، وهكذا في الجنايات، فالقاتل بغير حق يُقتل، والزاني المحصن يُرجم، والبكر يُجلد، وغيرها مما جاء في الكتاب والسنة، كلها ثوابت، فتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وكل ما شرعه الله ورسوله، فهي ثوابت، ليس لأحد تغييرها أو تبديلها، فلو قال قائل: هذا الزمن لا نحتاج للولاء والبراء، لأن فيه شدة مع الكفار، لكان قائلاً بمنكرٍ من القول وزوراً؛ وعدم فهمه كما فهمه السلف الصالح، ليس حجة في إلغائه، وإنما يرد على من فهمه بفهم الفرق الضالة، ويرسخ الفهم الصحيح الذي قرره السلف، وكذلك الجهاد هو من الثوابت، وكون أصحاب التنظيمات الهالكة تُسمي إجرامها وفسادها جهاداً، لا يلغي مفهوم الجهاد الصحيح، بضوابطه وشروطه، والتي منها أن يكون تحت راية إمام المسلمين وبإذنه، يقول ابن قدامة (وأمر الجهاد موكول لولي الأمر، وعلى الرعية أن تطيعه)، وكذلك التكفير هو حكم شرعي، وهو من الثوابت الشرعية، وكون الغلاة والخوارج يكفّرون بغير حق، ويكفّرون أهل الإسلام وحكامهم، ليس حجة أن نلغي التكفير بحق، ولا نسلك طريق المرجئة الضُلال، كما لا نسلك طريق الخوارج المارقين، وإنما يُكفَر من كفره الله ورسوله، ويرد على أهل الأهواء سوء فهمه، حماية للدين من انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وتحريف الضالين.
والذي يحكم بالتكفير هم القضاة والعلماء الراسخون في المجامع الفقهية، وأما الجهلاء والمبتدئون في العلم فليس هذا من شأنهم، والمقصود أن هذه ثوابت لا يصح إلغاؤها، وإنما علينا أن نفهمها بفهم السلف الصالح.
وتطرّق د. الرضيمان إلى المتغيرات وهي الوقائع، التي تتغير أحكامها تبعاً لتغير واقعها، وهو ما يُقال فيه: تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، فالأحكام الشرعية ثابتة، وإذا تغير الواقع، فإنه يطبق عليه الحكم المناسب، وهذا تغير في الواقع لا في النص الشرعي، وعلى سبيل المثال، لو حُرّم استعمال دواء ما؛ لما يخشاه الأطباء من ضرر، ثم ثبتَ أنه نافع ولا ضرر فيه، فتغيرت الفتوى إلى الجواز، فالذي تغيَّر هو الواقعة، والحكم الشرعي يحكم على الواقعة، وهذا ليس تَغيُّراً فيه، وإنما هو تغير في الوقائع، ويستشهد بكلام بعض الناس بقولهم: الإذاعة وتعليم البنات والبرقيات وغيرها من المستجدات، هناك مَن حرَّمها، ثم أباحها، ويدخل ذلك في المتغيرات، ونقول: هل التَّغَيُّر هو بالشريعة وأدلتها، أم بأفهام أولئك المحرِّمين، إن صح أنهم حرموا ذلك؟
والجواب: الشريعة ثابتة، والحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، ومن اشتبه عليه الأمر، فَلِقِصَرِ نظرِهِ، فإذا اتضحت له الأمور، وتراجع عن قوله، فهذا التغيُّر فيه، وفي تصوره للمسألة، لا في الشريعة وأدلتها الثابتة، ولهذا فجميع الحوادث والمستجدات، لها ما يبين حكمها في الشريعة، علم ذلك مَن علمه وجهلَهُ مَن جَهِلَهُ، لأن الله تعالى يقول في كتابه الكريم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}.
وإذا أردت أن تعرف مثالاً على ذلك، فانظر إلى المناطق القطبية، التي يكون فيها ستة أشهر نهاراً، وستة أشهر ليلاً، وسؤال أهلها كيف يصلون، وكيف يصومون؟
تجد الجواب عند التأمل والنظر موجوداً في حديث «لُبثُ الدجالِ في الأرض»، وأنه يلبث أربعين يوماً، يوماً كسنة، ويوما ًكشهر، ويوماً كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، وقد سأل الصحابة رسول الله: كيف يصلون في هذا اليوم الذي كَسَنة، فأجابهم أن يَقْدُروا له قدره، وهذا دليل على كمال الدين.
وعرج د. أحمد الرضيمان منهج السلف الصالح في فقه المتغيرات والمستجدات، هو فهم هذه المستجدات فهماً دقيقاً يطابق واقعها، والنظر في الأدلة الشرعية وفهمها فهماً صحيحاً، وبالتالي إنزال الأحكام الشرعية على هذه المستجدات إنزالاً صحيحاً.
فتنزيل الأحكام على الوقائع - كما يقول أهل العلم - مما لا يتمُّ الحكم القضائي أو الفتوى إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالوقائع يتكرر نزولها، ولا يطابق بعضها بعضاً، بل تختلف عنها قليلاً أو كثيراً بحكم ما يحف بها عند وقوعها مِن عللٍ دافعة، أو عوارض مانعة، أو ظرف زماني أو مكاني فيها، في تنزيل الأحكام على الوقائع في كل قضية تعرض على القاضي أو المفتي.
وأما ما جعل الشرعُ أن المرجعَ فيه هو العرف، فإن ذلك يتغير بتغير الأعراف، ومن ذلك الرجوع إِلَى المَعروفِ فِي نَفَقَةِ الزَّوجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالمَمَالِيكِ وَالْأُجَرَاءِ وَنَحوِهِم.