د. عبدالحق عزوزي
كانت السنوات السبع الأخيرة التي ودّعناها في الوطن العربي مليئة بالمفاجآت والوقائع التي لم تخطر على بال أكثر الناس ذكاء، وأكبر المراكز البحثية في أميركا وأوروبا خبرة ومكانة، وأعظم المحللين والإستراتيجيين علماً ودراية، فما كان أحد يتكهن بأن نظام بنعلي سيفنى بين عشية وضحاها، ولا تصور أحد أن أنظمة عربية عديدة ستتهاوى في رمشة عين، أو أن يتحول الربيع العربي إلى خريف وخراب في العديد من الدول والأمصار، وما كان أحد يظن أن أنظمة ديمقراطية انتخبت بأذكى قواعد الشفافية ستزول بدورها كما في اليونان وإيطاليا وغيرها أو أن يصل رجل مثل ترامب إلى البيت الأبيض، إنها سنوات تحملنا إلى مفهوم سياسي في أكبر معانيه، ألا وهو حمل العام والخاص على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.
ويمكن تلخيص المصالح الدنيوية اليوم في إقامة العدل والعدالة وتحقيق التنمية: وهي مفاهيم لمعادلة توازنية مجتمعية واحدة. ومن هنا الكثير من المؤتمرات واللقاءات التي تنظم في الوطن العربي للتشخيص والتنظير وفهم وإيصال أولويات المرحلة إلى بناة السياسات العمومية...
ولا غرو أن المؤتمر السنوي الثاني والعشرين لـ «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية».. «المنطقة إلى أين: تحديات أسعار النفط» الذي جمع مؤخراً العديد من المختصين وأصحاب الفكر والقرار قد أجاد واستفاض في تشخيص ما يعانيه الوطن العربي واقتراح حلول قادرة على مواجهة كل التحديات الراهنة. ولا أدل على ذلك من التوصيات البارزة التي صدرت عن المؤتمر، إذ نادينا بضرورة العمل على معالجة حالة الانكشاف السياسي والأمني والاقتصادي في المنطقة العربية بما يحقق الأمن والاستقرار داخل دول المنطقة ويحصّنها ضد أي تدخلات خارجية في شؤونها.
كما دعونا إلى الحفاظ على دعم دول المحور العربي باعتبار أن هذا المحور هو خط الدفاع الأول ضد محاولات تصفية الدولة الوطنية العربية وتعزيز مستوى التنسيق العربي في مواجهة الظاهرة الإرهابية بكل تجلياتها ومصادرها وأشكالها على أن يؤسس هذا التنسيق على حوار جاد للاتفاق على تعريف موحد للإرهاب بما يقضي على الثغرات التي تستغلها التنظيمات الإرهابية لإبقاء نفسها على قيد الحياة واكتساب الدعم تحت شعارات مراوغة ووضع الخطط والسياسات التي تحقق التوازن في منطقة الخليج العربي بين دول «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» من جانب وإيران من جانب آخر.
ودعا المؤتمر المجلس إلى أن يقود بما تملكه دوله من قدرات كبيرة الجهود لبناء منظومة عربية متماسكة وضمان الأمن القومي العربي وتحقيق التوازن العسكري والسياسي والاقتصادي في المنطقة وتنويع مجالات التحرك الخارجي لدول المجلس؛ حتى يمكنها التعامل الفاعل مع المتغيرات والمستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية وما تنطوي عليه من فرص من المهم استثمارها وتحديات لا بد من التصدي لها.
ثم على الصعيد الاقتصادي، أوصى المؤتمر بإصلاح بعض مظاهر الخلل الهيكلي في بعض الاقتصادات الخليجية من خلال تخفيض النفقات وقيام دول «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» بوضع خطط اقتصادية شاملة قصيرة الأجل وطويلة الأجل؛ بهدف توجيه اقتصاداتها إلى أنشطة غير نفطية تساعد على تنويع مصادر دخلها القومي وتعددها والإسراع في جهود التنمية المستدامة بوصفها أساس الانطلاق إلى مرحلة ما بعد النفط.. والعمل على زيادة الاهتمام بإنتاج المعرفة من خلال تهيئة البيئتين التشريعية والاقتصادية الملائمتين بما يؤدي إلى توفير الظروف المناسبة لهذا العنصر المهم الذي يمكن أن يوفر مصدراً آخر من مصادر الدخل في دول «مجلس التعاون لدول الخليج العربية». كما حيا المشاركون المجهودات التي تقوم بها المملكة العربية السعودية والإمارات في هذا الباب.
وأخيراً إذا صح لي أن أخرج بخلاصة واحدة من كل ما قيل وعقب عليه في المؤتمر، وهو ما كتبنا عنه مراراً في صحيفة الجزيرة الغراء، فهو ضرورة الاستثمار في العامل البشري، فبدونه تضيع مصالح الشعوب والأجيال. إن دولاً كاليابان وكوريا الجنوبية التي لا تملك أي موارد طبيعية استثمرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في المورد البشري فأصبحت دولاً متقدمة وأصبح البحث العلمي فيها متطوراً وغذت دولاً يضرب بها المثل.... فمن مسؤولية الجميع اليوم في الوطن العربي الاستثمار في العقول والابتعاد كل البعد عن السياسات العقيمة والشعارات المدوية والارتجالات التي لا ترجع على شعوبها إلا بالويل والخراب، فالعقل الصحيح والناضج والمتعلم هو الوحيد القادر على إنقاذ البلدان.