-1-
عرضتُ في مقالة السبت الماضي صورة مصغرة لأبرز المحطات التي مرّت بها إدارة النشاط الثقافي في بلادنا، وأول ما استوقفني فيها هذا المدى الزمني الكبير الذي احتاجه النشاط الثقافي في بلادنا (نصف قرن تقريباً) لكي يحظى بصيغة إدارية تضمن له الاستقلال الإداري والمالي (تمثّلها هنا الهيئة العامة للثقافة).
لقد احتاجت الرياضة - على سبيل المثال - إلى أقلّ من هذه المدة لتستقلّ إدارياً ومالياً، واحتاج الإعلام إلى أقلّ منها أيضاً ليستقلّ في وزارة خاصة، فما الذي جعل النشاط الثقافي يحتاج من الزمن إلى ضعف ما احتاجت إليه الرياضة والإعلام؟ وبصيغة أخرى: ما السرُّ الذي يقف خلف تعثّر محاولات استقلاله على مدى أربعة عقود ؟
إنّ هذا السؤال يستند إلى يقيني الجازم بأنّ الصيغة الإدارية المتمثلة في الهيئة العامة للثقافة لن تحقّق الاستقلال (الحقيقي/ الشامل) للنشاط الثقافي في المستقبل ما لم نحسم من الآن هذا السؤال بتفريعاته ومكاشفاته !
-2-
لماذا تأخرنا ؟
يبدو هذا السؤال قريباً بحيث يمكن أن يُغلقَ بإجابة جاهزة، لكنه في حقيقته أعمق من العمق نفسه، إنه سؤال عن ماهية الثقافة في وعينا، وعن المساحة التي يشغلها النشاط الثقافي من اهتمامنا أفراداً ومؤسسات، وعن الثقافة ودوائر صنع القرار، وعن المثقف في علاقته بالتاريخ والسياسة والمجتمع، وعن الثقافة ومستقبل هذا الوطن ..
لذا يحتاج – كما الأسئلة المركّبة - إلى مقاربة من زوايا مختلفة، من أهمها :
- الدولة ممثلة في دوائرها المشاركة في صناعة القرار .
- المؤسسات التي كانت مسؤولة عن النشاط الثقافي وأهمّها وزارة الثقافة والإعلام .
- المثقفون والمثقفات .
- المتلقي والراصد .
ومثل هذه المقاربة تحتاج إلى لقاءات جادة، يجب أن تنهض بها الهيئة العامة للثقافة في هذه المرحلة؛ لتحدّد من خلالها وجوه الخلل فيما مضى، والضمانات الممكنة لمستقبل أفضل. ولا يمكن أن نحقّق هذه الغاية إلا إذا أدركنا ابتداءً الفرقَ بين الإداري والمثقف، ثم الفرق بين المثقف والمثقف الفاعل في إدارة النشاط الثقافي، واستحضرنا بشكل جيد كلّ الفرضيات والنتائج التاريخية والفكرية والاجتماعية التي حاولت تفسير وضع الثقافة والمثقف في عالمنا العربي .
-3-
لقد تعثّرت محاولات سابقة لتحقيق الاستقلال الإداري والمالي للنشاط الثقافي في بلادنا، بعضها كان على مسافة أيام معدودة من الإقرار، وفي المقابل ولدت الهيئة العامة للثقافة دون مقدمات أو مناقشات، وإذا كان هذا مسوّغاً لاعتبارات لا تخفى فإنّ ما لا يمكن تسويغه عزل مرحلة تأسيس الهيئة عن المثقفين، وإسنادها إلى فئة معدودة تظل رغم ثراء تجربتها جزءا يسيراً من كلّ لا حدّ له.
إن الثقة كبيرة في كل من ينتمي إلى مشهدنا الثقافي، لكنّ مرحلة التأسيس هي المرحلة الأهم في بناء المؤسسة، ولا يجهل أحدٌ اليوم حجم المؤسسات التي وجدت نفسها مكبّلة - قبل كلّ شيء - بإطارها التنظيمي الأول؛ لكونه صُنِع على عين واحدة، وهذا ما أخشاه على الهيئة العامة للثقافة؛ لذلك طرحتُ هنا أهمية عقد اللقاءات المفتوحة والورش المتخصصة في هذه المرحلة؛ لمناقشة كل ماله علاقة بمستقبل الهيئة بداية من:
- تحديد دلالة واضحة للمصطلحات والمفاهيم التي تضمّنتها «الترتيبات التنظيمية للهيئة».
- مناقشة الممكن من السياسات المتعلقة بنشاط الهيئة وخططها وبرامجها، والخريطة العامة لإمكاناتها المادية .
- مناقشة العقبات التي أحاطت بالنشاط الثقافي فيما مضى، وطرح الرؤى والأفكار الممكنة لمعالجتها .
- مراجعة النقد الذي استهدف النشاط الثقافي خلال العقود الأربعة الماضية، واستثماره في بناء مستقبل أكثر وعياً بحاجات وتطلعات النشاط الثقافي .
- الاطلاع على أفضل تجارب النشاط الثقافي في العالم، وبوجه خاص تلك التي تشكلت في مؤسسات ثقافية مستقلة (وزارة الثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، الهيئة العامة للثقافة).
وكلّ ما سبق لا يحتاج إلا إلى مبادرة عاجلة لإخراج هذه المرحلة من عزلتها، والانفتاح بها على المثقفين بجميع فئاتهم وتوجهاتهم، والتعامل مع الأسئلة الكبيرة بمسؤولية أكبر !
- د. خالد الرفاعي