سهام القحطاني
أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأن نورد الرايات بيضا
ونصدرهنّ حمرا قد رُوِينا
ألا لا يجهلنّ أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
- «عمرو بن كلثوم»
قبل الإسلام كان مصطلح «العرب» لا يتجاوز كونه وصفًا عرقيًا، أي لم يكن ممثلاً لهوية خالصة ذات خصائص معنوية ومادية، وما عزز غياب تلك الهوية هو الانتساب الجزئي الذي خضعت له هويات العرق العربي، فكانت القبيلة لا العرق هي المؤسس للهوية والافتخار يتم وفق الهوية المنسوبة للقبيلة، وهذه الإشارة نجدها بوضوح في قول الرسول الكريم: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» إشارة إلى التمييز بين العرق والهوية.
وكانت درجات الهويات تُصنف وفق المرتبة الفئوية للقبيلة، وكان للشعر بلا شك دور في تعزيز مستويات تلك الفئوية وهو تعزيز تأسست في ضوئه أغراض شعرية مثل الفخر والهجاء، فكان بيت من الشعر يرفع شأن قبيلة أو يسقط شأنها.
لكن قد يرى البعض أن العرب استطاعوا تحقيق هوية مرتبطة بالعرق «هوية عربية» وهو رأي يستند إلى توفر الشروط الداعمة لنشأة «هوية وصفية» عامة، مثل اشتراكهم في ذات الملامح الحياتية والاجتماعية وتداولهم ذات العادات والأخلاقيات إضافة إلى وحدتهم اللغوية، وتلكم أمور تحقق شروط صناعة «الهوية الوصفية» لأي عرق.
لكن حسبما أعتقد أن صناعة «الهوية الوصفية» لأي عرق تؤسس في ضوء شروط غير الشروط السابقة، فهي تحتاج إلى وحدة مكانية ووحدة دينية ووحدة حضارية وكفاية اقتصادية ونظام سياسي.
ولو تأملنا العرب قبل الإسلام من الداخل لوجدنا أن الشروط الواجبة لصناعة هوية وصفية غير متوافرة، فقد كان العرب ما بين القبائل الرّحل الذين لا يمكن الوثوق في انتمائهم لأي حكم قبلي والقبائل التي تسكن المدن ولها استقلالها السياسي الخاص، وهو ما أثر على تكوين هوية العربي تأثيرًا قائمًا على طبيعة الهوية القبلية وهي طبيعة ترفض التنازل عن هويتها الخاصة من أجل الامتزاج مع هوية أخرى، وهو رفض أفشل صناعة مصطلح الأمة وقيام إمبراطورية عربية قبل الإسلام مثل الفارسية والرومانية، وهذا الاختلاف بين الثابت والمتنقل في حياة القبائل العربية منعتهم من تكوين وحدة حضارية أو مجتمع مدني مثل الغساسنة والمنازرة، لأن الشرط الحضاري مرتبط غالبًا بوحدة المكان.
كما أن العرب كانت مجتمعات مستهلكة تعتمد على الاستيراد، وذلك بسبب طبيعة أرضهم الصحراوية والبعيدة عن أي أنهار التي لم تحقق لها أي كفاية اقتصادية، والمجتمعات المستهلكة لا تصنع عادة حضارة.
إضافة إلى فوضى الحياة الدينية عند العرب التي اعتمدت على تعدد الآلهة ولكل قبيلة إله، وغياب وحدة النظام السياسي، إذا كانت التحالفات القبلية في صورتها الثنائية أو الثلاثية هي التي تصبغ الوضع السياسي للعرب، وهي تحالفات كانت تتحرك ضمن فكرة «غرام وانتقام»، وعزّز هذا الأمر عدم خبرة العرب في كيفية صناعة الأنظمة السياسية وتلك الخبرة الغائبة هي التي سببت الفتنة السياسية بعد وفاة الرسول الكريم.
وفي غياب هذا النسيج الوحدوي للعرب لم تنجح لغتهم المشتركة أن تصنع لهم هوية وصفية تميّزهم حضاريًا عن غيرهم وتصنع لها قوة سياسية، وما أحزننا أن نقول ما أشبه الليلة بالبارحة الجاهلية الأولى.
عندما ظهر الإسلام بدأ بتأسيس مفهوم «الأمة» وهو مفهوم لم يقم على أساس العرق ولا اللغة إنما العقيدة، كما أنه أرهص لتصميم «الهوية الإسلامية» وهي هوية تجاهلت العرق العربي وأصبحت قيمة الفرد تُقاس بالتقوى «السلوك والفكر» لا بالعرق أو المال.
وهذا الانتقال الكلي للهويات الخاصة من الانتماء القبلي إلى العموم الانتماء العقدي الذي يُزيل حواجز التمييز العرقي والطبقي كان من أهم أسباب عزوف كثير من كفار العرب عن الدخول إلى الإسلام وخاصة السادة والأغنياء وأكابر القوم، فدخولهم الإسلام كان يعني خضوعهم لمعايير الهوية الجديدة لهذا الدين، الهوية التي يتساوى في ظلها الفقير والغني والحرّ والعبد والمرأة والرجل.
وبذلك نمي مفهوم جديد للهوية عند العربي ليس قائمًا على خصوصية القبيلة بل عمومية العقيدة، تلك العقيدة التي تأسس في ضوئها مفهوم الأمة، ذلك المفهوم الذي ربط بالخيرية والوسطية، وهو ربط نقى الهوية الجديدة من أي تحيّزات تفسد خيرية الأمة، وأي تطرف يُفسد وسطيتها.
إلا أن ذلك النمو للهوية الجديدة تعرض لهزة بعد وفاة الرسول الكريم، لتعود مرة أخرى خصوصية القبيلة إلى الظهور على المسرح السياسي صانعة أول فتنة في تاريخ المسلمين بعد وفاة الرسول الكريم التي قسمّت الهوية الإسلامية إلى قسميّن وصفيين؛ سنّة وشيعة.