د.أحمد بن عثمان التويجري
في النصف الثاني من الستينيات الميلادية زرت الرياض لأول مرة. كان أكثر ما أدهشني في ذلك العمر المبكر البث التلفزيوني الذي كان في سنته الثانية وربما الثالثة. كان هناك وجهان وطنيان ألفهما مشاهدو التلفزيون في الرياض في ذلك الحين، أحدهما الصديق العزيز عميد المؤرخين الإعلاميين السعوديين وشيخهم الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي، والآخر ابن العم الحبيب الإنسان النبيل والمثقف الأنيق الأستاذ خالد بن عبدالله التويجري. كان الاثنان محل غيرة كثير من الشباب، ومثار إعجاب الأغلبية العظمى من المشاهدين، ومصدر اعتزاز للتلفزيون السعودي في تلك المرحلة المبكرة.
كانت تلك بداية معرفتي عن أبي طلال، تلتها سنوات وسنوات قبل أن أسعد بمقابلته وأتشرف بمعرفته عن قرب بعد أن عدت من دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع الثمانينيات الميلادية. لم تتغير صورته منذ الانطباع الأول، فقد ظل ذلك الأنيق صاحب الذوق الرفيع والمظهر الذي ينبيء عن مخبر متميَز الذي لا تزيده السنون إلا تألقاً ووقاراً. من أعظم ما اكتشفته فيه بعد أن توثقت صلتي به قلبه الكبير المفعم بحب الخير الغيور على الأهل والوطن الزاهد في الأضواء والإطراء. في مقاله الموفق عنه قال الصديق والزميل العزيز الدكتور عبدالواحد الحميد: «الشبيلي، بالرغم من كل إنجازاته، كان -بتواضعه الجم- يرفض دائماً جميع المحاولات التي بذلت لتكريمه. وقد وقفت شخصياً على بعض هذه المحاولات، وأدهشني أنه كان دائماً يرشح شخصاً آخر للتكريم بدلاً منه في الوقت الذي كان البعض يتهافت على التكريم ويشتكون من الجحود والنكران».
وفي مقاليه الضافيين عنه كتب الصديق والزميل العزيز الدكتور عائض الردادي قائلاً: «يحتار من يدلف للكتابة عن (أبي طلال) من أين يبدأ: أمن بداياته الدراسية حين كان يحصد شهادتين جامعيتين عندما حصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية من كلية اللغة العربية عام 1383هـ، 1963م وبكالوريوس الآداب في الجغرافيا عام 1385هـ 1965م، أم من ابتعاثه المبكر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1389هـ، 1969م وحصوله على الدكتوراه في الإعلام ليكون أول مواطن يتأهل في مجال الإعلام، فهو لغوي جغرافي إعلامي مقتدر في كل واحدة منها؟، أم من ابتعاثه المبكر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1389هـ، 1969م وحصوله على الدكتوراه في الإعلام ليكون أول مواطن يتأهل في مجال الإعلام، فهو لغوي جغرافي إعلامي مقتدر في كل واحدة منها؟، أم يكون الكلام عن ممارسته للعمل الإذاعي في إذاعة الرياض وتلفزيونها إلى أن صار مديراً عاماً للتلفزيون، وحين شهدت خلالها الإدارة التلفزيونية تميزاً في المجالين الإعلامي والإداري؟، أم يمتد الكلام عن الأستاذ الجامعي للإعلام الذي جمع بين التأهيل الأكاديمي والممارسة الفعلية للعمل الإعلامي مذيعاً ومعداً وبخاصة للبرامج الوثائقية والحوارية في الإذاعة والتلفزيون؟».
سعدت وشرفت بزمالة أبي طلال في مجلس الشورى لثماني سنوات، ورأيت فيه الوطنية الحقة والإخلاص النقي والحكمة والرشد في القول والعمل، والقدرة الفائقة على نيل مودة واحترام الجميع. لن أتحدث عن إنجازاته الكثيرة والكبيرة، ولا عن تجاربه الفذُّة، فقد أوفى الصديقان والزميلان العزيزان عبدالواحد وعائض هذه الجوانب حقها، ولكنني سأقصر حديثي على جانب أعدُّه من أعظم ما منُّ الله به على أبي طلال، ألا وهو جانب مكارم الأخلاق، فقد خصه الله بنبل يندر مثيله، وكرمٍ أصيلٍ تجدده الأيام، ونقاء سريرة وعفة لسان وطهارة يد لا يحظى بها مجتمعة إلا الراسخون في الفضل. من أصدق ما قيل فيه ما كتبه الصديق الأديب والناقد الأدبي الدكتور إبراهيم التركي حين قال: «دمعته قريبة ولو سعى إلى إخفائها، وآلامه مستترة خلف ابتسامته وصمته ومراعاته مشاعر سواه، يقول الشعر بين خاصته، ويُفضي ببعض رؤاه النقدية عند عارفيه، ويبقى داخله صندوقًا مغلقًا تغلفه نفسه الرضية وروحه المتسامحة وتعاليه على ما تكنه بعض الصدور الآسنة»
تكريمه هذا العام في مهرجان الجنادرية، ونيله وسام الملك عبدالعزيز أسعد كثيرين وإن كان متأخراً، ولم أكن مبالغاً عندما علقت على ذلك بقولي: إن أبا طلال نال أوسمة محبيه وتوُّج في قلوبهم قبل تكريمه في المهرجان بأمد بعيد. وأقول اليوم: إنه لا يساورني أدنى شك في أن التاريخ سيحفظ لأبي طلال مكانته الرفيعة اللائقة به وبإنجازاته، مثلما حفظ هو لنا تاريخ كثير من أعلام الوطن ورجاله الكبار، ومثلما وثق مسيرة الإعلام في المملكة منذ تأسيسها. إن تكريمه وتقليده وسام الملك عبدالعزيز في حقيقة الأمر تكريم للنبل والحكمة والسيرة الحميدة وللإعلام وتاريخه في المملكة قبل أن يكون تكريماً شخصياً له حفظه الله، وإنه ليسعدني ويشرفني أن أهدي إليه هذه الأبيات في هذه المناسبة العزيزة سائلاً المولى عز وجل أن يحفظه رمزاً كبيراً من رموز الوطن وأخاً أكبر نعتز ونفتخر جميعاً بأخوته وصداقته:
مَاضٍ وَدَربُكَ كُلّهُ أنْوَارُ
أَنّى اتُّجَهْتَ كَأَنُّكَ الإسْفَارُ
مَاضٍ وَتَحمِلُ في يَدَيْكَ مَشَاعِلاً
هيَ هَكَذَا يَا سَيُّدي الأَقْمَارُ
النّبْلُ عِنْدَكَ قَد أنَاخَ رِكَابَهُ
وَعَليهِ مِنكَ مَهَابَةٌ وَوَقَارُ
والمَكْرُمَاتُ وَقدْ مَلَكتَ زِمَامَها
فِي رَاحَتَيْكَ عَطَاؤُهَا مِدْرَارُ
سَمْحٌ كَأنْسَامِ الرّبيعِ مُوَلَُّعٌ
بِالعَالِيَاتِ كَرِامَهَا تَختَارُ
وُمُنزُّهٌ عَنْ كٌلُِّ فِعْلٍ شَائِنٍ
لَكَ فِي الحَيَاءِ مَجُّنُّةٌ وِدِثَارُ
زُيّنْتما بالخُلُقِ القَويمِ وبِالحِجا
كَمْ في رَيَاضِكَ لِلحِجَا إِزْهَارُ
وُمُسَدّدٌ في القَوْلِ تَجَلُو سِرُّهُ
فَكَأَنّمَا لَكَ تُكْشَفُ الأسْرَارُ
أأبَا طَلالَ وَأنتَ بَهْجَةُ إخْوَةٍ
جَمَعَتْهَمُ مِنْ حَوِلِكَ الأقْدَارُ
قُل لي بِرَبُّكَ والفُؤادُ مُتَيُّمٌ
وَبِخَافِقِي تَتَزَاحَمُ الأفكارُ
أيُُّ القَصيدِ يفيكَ قَدْرَكَ ويْحَهَا
إنْ لَمْ تَطِبْ بِمَديحِكَ الأشْعَارُ؟
قَدْ كُنْتَ للإعْلَامِ شَمْسَ ضِيَائِهَِ
أَيُّامَ كَانَ العُسْرُ والإقْتَارُ
وَسمَا بِكَ التُّعليمُ لَمُّا زِنْتَهُ
وَأَرَيْتَهُ كَيْفَ العُقُولُ تُدَارُ
وَمَضَيْتَ للشُّورى فَكُنْتَ بَهَاءَهَا
بِرُؤاكَ كم فَاضَت لَهَا أَنْهَارُ
يَا سَيُّدي والقَوْلُ يُحْجِمُ عِندَمَا
يَلتَاعُ في طَيُّاتِهِ إِضْمَارُ
قَدْ يُحْجَبُ الصَُّدُّاحُ عَنْ دَوْحَاتِهَ
وَيَضِيعُ فِي وَهْمِ السّرَابِ مَسَارُ
قَدْ تُحْبَسُ الآسَادُ في أَدْغَالِهَا
وَيَصُولُ حَوْلَ عَرِينِهَا سُنَُّارُ
قَدْ يُحْرَمُ الإصْبَاحُ مِنْ إشْرَاقِهِ
لَكِنْ أَيَخْفَى فِي الوُجُودِ نَهَارُ؟
يَا سَيُّدي والحُبّ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ
وَقُلُوبُنَا أَبَدَاً عَلَيْكَ تَغَارُ
عَفْوَاً إذَا عَجَِزَ البَيَانُ وَأقْفَرَتْ
لُغَةٌ وَهَابَتْ لَحْنَهَا الأوْتَارُ
سُكْنَاكَ في الأَرْوَاحِ في أَعْمَاقِهَا
مَهْمَا قَسَى دَهْرٌ وَشَطَُّ مَزَارُ
وَلَئنْ مُنِحْتَ وِسَامَ مَلْكٍ مَاجِدٍ
وَمَضى بِذِكرِكَ يَصْدَحُ السّمّارُ
فَلَأنتَ في كُلُِّ القُلُوبِ مُتَوُّجٌ
وَلَكَمْ بِمِثْلِكَ تَفْخَرُ الأَمْصَارُ
أسأل الله عز وجل أن يمن على أبي طلال بالصحة السعادة وطول العمر، وأن يحفظه رمزاً كبيراً من رموز الإعلام والفكر في المملكة العربية والسعودية، وقدوة صالحة لكل من يسلك دروب الإعلام والكتابة من أبناء الوطن، والحمد لله من قبل ومن بعد.