د. إبراهيم بن محمد الشتوي
فهو منهج «فردي» تظهر فيه الفردية على أكثر من مستوى، المستوى الأول: أن المخاطب فيه الفرد، فالله عز وجل يقول: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}،{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، المستوى الآخر في صياغة الحكم الشرعي الذي عليه مدار الأمر، فالعالم الفرد يستطيع أن يستنبط من النصوص ما يراه صحيحاً، بغض النظر عما يراه الآخرون، أو ما تراه المؤسسة الرسمية، فيخالف الجماعة بذلك، ويخالف الرأي السائد المنتشر، والنظام، ويمكن أن نضرب على ذلك مثلاً بموقف «الإمام أحمد بن حنبل»، فقد كان موقفاً فردياً، وكذلك المواقف المشهورة المسجلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ويمثله أبرز تمثيل المقولة المنسوبة إلى ابن مسعود رضي الله عنه: «الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك». بل إن المذاهب الأربعة الإسلامية الكبرى منسوبة إلى أفراد، وهو ما يجعل تلك الحالة قابلة للتكرار.
هذه الخروقات الفردية للنظام الفقهي العام تملك حق مشروعية نسف النظام بناء على المكانة التي يحتلها العالم في تركيبته، وتعطيه حق القيام بذلك، وهو ما يؤذن بالتخلخل، وعدم الثبات، من جهة، ومن جهة أخرى يؤدي إلى عدم الاستقرار فيما اعتمد عليه.
خاصة إذا كانت تتصل بتحريم شيء تبيحه الرؤية السائدة في المجتمع، أو بإباحة شيء تحرمه الرؤية السائدة، مما ينقل «الفعل» من دائرة إلى دائرة متجاوزاً بذلك جميع الإجراءات التي ينبغي أن يمر بها تحول القوانين بناء على أن المانع الحقيقي هو التعبدي، والعلاقة بالله وليس لأحد علاقة بهذا خارج هذه العلاقة.
وإذا تجاوزنا مسألة أن النظام الفقهي نظام علمي خاص بحقل من الحقول، ونقله إلى الحقول الأخرى قد يؤدي إلى مزالق، فإنه أيضاً بحاجة إلى تحويله من «الفردي» إلى الجماعي، بحيث تكون المواقف الفردية فيه محكومة بنظام جماعي، لا يمكن أن تخرج عنه، إلا في ضوء إطار معين.
أما النموذج الآخر، وهو المنهج العصري، فمشكلته أنه يعتمد آليات للاستنباط من الدين، والنسبة إلى الإسلام قد لا تكون مقبولة في المنظومة الفقهية السالفة الذكر، التي اعتبرها القدماء الطريقة الصحيحة لفهم الدين، ولاستنباط الأحكام الشرعية منه، وهو ما يعني نسبة شيء إلى الإسلام ليس منه، وشرع شيء ليس من الدين، وهو ما يؤذن الذهاب بالدين نفسه. ويدخل في قوله تعالى: {شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}.
وهي العناصر الدقيقة المترابطة التي يعتبرونها الرؤية العصرية، ويتحول الدين من وجهة نظره -المنهج- إلى نظام شامل، ليس شاملاً بالمفهوم العام كما في قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}، الذي يعني أن «شيء» تتصل بما تبعث له الأديان عادة، وإنما بالمعنى التفصيلي الحرفي، بحيث تتسلسل الأحكام فيه تسلسلاً دقيقاً حتى تمثل منظومة واحدة تبني البرنامج الذي يحقق الرؤية السابقة.
وهذا ما اقترحه سيد قطب تحت مسمى «الحاكمية» التي أدخل فيها كل مفردات الحياة باعتبارها جزءاً من الحاكمية، إما أن تتفق معها فتصبح خاضعاً لحاكمية الله، أو أن تخرج عنها، فتكون رفضت حاكميته، وهذا يعني أنه يساوي بين الأفعال في الحكم الشرعي باعتبارها معبرة عن حاكمية الله، ويخرجها من دائرة التشريع الفقهي إلى دائرة توحيد العبادة، كما أنه يخالف ما اتفق عليه في أن أحكام التكليف خمسة مراتب.
وهذا يوصلنا إلى الآلية التي تعتمدها الجماعة لتحويل رؤيتهم نحو الأشياء واقعاً ملموساً، فإن اعتمدوا على آلية «الحلال والحرام» كما في الرؤية السلفية، فهذا يؤدي إلى أمرين: توسيع دائرة الحلال والحرام فيما لا يتصل به في الأساس، كما في موقف سيد قطب سالف الذكر، وإدخاله في دائرة البحث الفقهي، والعلاقة الخاصة التي تربط العبد بربه كما ذكرنا في المقالة السابقة.
أما الآلية الثانية فهي «العصبية» التي تعني نشره بالقوة، وتتمثل بإبعاد من لا يتفق مع هذا المنهج، ولا ينفذ هذه الرؤية، أو يتتبع التفصيلات الدقيقة ويتفق معها. ويتدرج هذا الإبعاد من الردود، أو الإقصاء، أو تشويه السمعة والكذب، وحشد الخصوم والفرقاء، ويصل إلى حد القتل كما نرى هذه الأيام.
وهذه الإجراءات ضد الخصوم التي تتخذها هذه الجماعات لا يسندها نظام، ولا منطق، ولا عرف، وإنما تقوم على التعصب للجماعة، والفرقة، والرأي في غير حق، ويقوم على إبعاد الآخرين بناء على منهج ذكرنا خلله من قبل، وهو ما يخلق حالة من الشقاق، ويهدد السلم الاجتماعي.
فإن جعل هؤلاء الدين شرعية لهم ليقوموا بما يقومون به من إجراءات، فقد وقعوا في التطرف أولاً بناء على ما سبق قوله، والإرهاب ثانياً لأنهم يفعلون ما يريدون، وإن اكتفوا بالعصبية دون غطاء شرعي أو نظامي، فهم معتدون خارجون على القانون، مستحقون للعقوبة من المؤسسات الرسمية.