قاسم حول
أقيمت في مدينة «دنهاك» الهولندية ندوة شعر وسينما، أشرفت عليها مؤسسة «أم جي جي» الهولندية لمناسبة اليوم العالمي للشعر. وتكرم المؤسسة السينمائي الشاعر والشاعر السينمائي الإيراني «عباس كيا رستمي» الذي توفي في الرابع من شهر يوليو \ تموز من العام الفائت 2016 في باريس حيث يقيم. وتمت في الأمسية قراءات شعرية لمناسبة يوم الشعر العالمي شارك فيها عدد من الشعراء العرب والهولنديين.
وقد بحثت في الأمسية التي أدارها الشاعر «محمد الأمين» موضوعات في معنى الشعر في السينما، والسينما الشاعرية. إذ يعتبر الشعر أحد أركان الثقافة الست والتي إعتبرت السينما سابعها وسميت بالفن السابع. ولأول مرة يشارك اثنان من الشعراء الهولنديين مع عدد من الشعراء العرب. ولعل محور السينما والشعر وكذا السينما الشعرية قد أخذ اهتمام الندوة إضافة للقرءات الشعرية المترجمة عن السينمائي والشاعر «كيا رستمي».
تمت مناقشة مفهوم الشعر في السينما، والسينمائيين الذين شكلوا الإتجاه الشعري في السينما في مقدمتهم السينمائي الفرنسي «آلان رينيه» وبرز هذا الاتجاه في فيلميه «الليلة الأخيرة في مارينباد» و»هيروشيما حبي» اللذين اتسما بالتأملية السينمائية والإيقاع المتناغم في حالة التأمل وكذلك صياغة الكادر السينمائي في صيغته التشكيلية وحركة الكاميرا الانسيابية.
وهناك عدد من المخرجين الذين عرفت أفلامهم بالسينما الشعرية ومنهم اليوناني «ثيو إنكيلو بولص» حيث كانت تجربته «رحلة إلى كثيرا» وهي عودة مهاجر يوناني أثناء الديكتاتورية إلى قريته «كثيرا»اليونانية وشعوره في الغربة. قدم الفيلم بصيغة سينمائية حالمة، فرض موضوع الغربة والعودة إلى القرية بعد سنوات الهجرة شكل الحلم السينمائي، الذي عرف به «ثيو أنكيلو بولص»
لقد حدد فلاسفة الفن مفهوم السينما كفن سابع واعتبروا الشعر أحد أركانها. ومن هؤلاء الفلاسفة «موريس نيدنو نسيل وشيلينع وإيتيان سوريو» إذ اعتبرت أدوات التعبير التي تشكل أركان الفن السابع « النحت والبناء كفن معماري. الرسم كزخرفة. التمثيل . الموسيقى . الرقص والإيماء. وأدب والشعر مقدمات لظهور الفن السابع. وحقيقة هذه التسمية تعود إلى الناقد الفرنسي الإيطالي الأصل «ريتشيوتو كانودو الذي ولد في إيطاليا عام 1879 وعاش في باريس منذ عام 1902 ومات فيها عام 1923 وقد اشترك في تحرير أكثر من 15 مجلة وجريدة وكتب أبحاثا ودراسات في الموسيقى المسرح والسينما كما كتب الرواية والشعر والمسرحية وأنشأ عام 1923 مجلة «الفنون السبع» على أن أعظم كتابات «كانودو» هي مجموعة المقالات التي كتبها عن السينما ما بين عامي 1907 و1923 وقد جمعت بعد وفاته في كتاب نشر عام 1927 بعنوان «مصنع الصور» وهو الذي أطلق على السينما الفن السابع. بل هو أول من عرفها بهذا الاسم. منطلقا من « لأن العمارة والموسيقى وهما أعظم الفنون مع مكملاتهما من فنون الرسم والنحت والشعر والرقص قد كونوا حتى الآن الكورال سداسي الإيقاع للحلم الجمالي على مر العصور، فإن السينما تجمل وتضم تلك الفنون الستة. إنها الفن التشكيلي في حركة، فيها من طبيعة الفنون التشكيلية ومن طبيعة الفنون الإيقاعية في نفس الوقت، ولذلك فهي الفن السابع»
من هذا الفهم الواعي، حدد مفهوم السينما، فإن الشعر في أبعاده التأملية والإيقاعية، من الأوزان والقوافي والأبعاد الموسيقية للكلمة وانتقائها. هناك الكثير من الأفلام والكثير من المشاهد داخل الأفلام تتسم بهذه السمة الشاعرية. وإن مكونات الطبيعة وأصواتها والإحساس بها من قبل السينمائي المرهف تنعكس على المشاهد والأداء وحركة الكاميرا والإضاءة. ولكن إلى جانب هذا فإن هناك أفلاما بكاملها تكتسب السمة الشعرية وتسمى السينما الشعرية، وقد تجلت أول ما تجلت في فيلم «الليلة الأخيرة في مارين باد» للسينمائي «ألان رينيه 1922 – 2014» الذي مزج في الفيلم وبشكل متداخل الرؤية الواقعية الحالمة بحلم المنام، فهو تداخل وصفه البعض بالسوريالية ولكنه فيلم يتسم وينتمي ويؤسس للسينما الشعرية بشكل تام.
هناك أفلام تفرض شكل السينما الشاعرية بسبب موضوعاتها، مثل فيلم «مشرب الشاي تحت ضوء القمر» المأخوذة عن مسرحية «جون باتريك» أخرجها للسينما «دانيئيل مان» ومع أنه فيلم ممتع وممتلئ مرحا، لكنه هذه المسحة الكوميدية تتسم أيضا بالشاعرية، وهناك شاعرية ثانية تخفف من فاجعة التراجيديا، وأطلق عليها «التراجيدية الإبداعية» أي المأساة التي تتسم بالشاعرية.
السينما الشعرية، ليست اتجاها كاملا بالمطلق، إنما هي سمة في كثير من الأفلام التي تفرض المسحة الشعرية وجودها داخل المشهد. ولكن السينمائي الفرنسي «ألان رينية» قد شكل أول مدرسة للسينما الشعرية بفلمية «هيروشيما حبي، واللية الأخيرة في مارين باد»
أفلام تاركوفسكي، اليست هي أفلاما شعرية بكاملها؟ ! الإضاءة المرسومة وحركة الكاميرا الانسيابية، والروح التأملية وشكل الإيقاع .. جميعها من مكونات الشعر بإيقاعه وموسيقاه. لقد تركت السينما المتسمة بالشاعرية بظلالها على منتوجات سينما الشباب الحديث الذي بدأ يرفض شكل الإيقاع المتسارع والأحداث المدمرة على الشاشة ويستعيد حلم الشعر وحلم السينما الشعرية التي وضعت أسسها أفلام مدهشة وجميلة ومخرجون موهوبون حقا. كانت إقامة هذه الندوة ضرورة تعنى بها مؤسسة «أم جي جي» التي تلقى الدعم من الدولة الهولندية عبر بلدية «دنهاك» وعموما فإن الغرب ومنذ زمن يرعى كل المؤسسات التي تعنى بالثقافة ويعتبرون تعميم هذا النهج إنما يخلص المتلقي وبشكل خاص المتلقي العربي من نزعة القسوة والسلوك التدميري التي سادت مجتمعاتنا في الحقبة الأخيرة. وكانت مؤسسة «أم جي جي» من المؤسسات التي تعنى بالثقافة الأدبية والثقافة السينمائية والتي تتلقى الدعم من الدولة الهولندية.