سعيد الدحية الزهراني
لماذا تركت الحصان وحيداً؟
لكي يؤنس البيت، يا ولدي
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها
أستعيد هذا البيت الدرويشي وأنا أستحضر حياة الناس الذين هاجروا أشياءهم وهجروها.. دون أن يتركوا لها الحصان كي يؤنسها لا تكون وحيدة.. فماتت مثلما تموت البيوت التي غادرها أهلها تاركينها لوحشة الغياب والفراغ..
رحيل قسري تسوقنا إليه التقنية الاتصالية الجديدة نحو سماوتاها المفتوحة وعوالمها الخالية من المعالم.. تاركين خلف ذاكرتنا ومذكراتنا الحياة التي تأخذ من دم الإنسان دفئها ومن حميمة الوجوه بهجة الالتقاء ومن تدافع الأجساد نكهة لعمر النهار وأحاديث المساء والسهر الحي بالأشياء الحيّة لا بالنقل الأثيري والوسائطي فاقد الروح والحياة..
تفيد نظرية الحتمية التقنية بأننا بلا خيار نملكه أصلاً! هل نتعاطى مع التقنية أم نوقفها؟ الخيار في أصله غير متاح.. هذه النظرية التي باركها وبشّر بها العديد من خبراء الاتصال.. هي في حقيقة الأمر لا تتجاوز في دورها الرئيس الجانب التوصيفي.. إذ لم تعالج ولم تعتن بتوصيات وأطاريح أكثر أنسنه لهذه التقنية ولمشروع الأتمتة الكاملة لبني البشر في شتى صنوف الحياة.
«القرى» التي احتضنت صرخاتنا الأولى وأحلامنا وشقاءنا وطيورنا وداوبنا.. وحتى «المدينة» بكل ما يحمله هذا المصطلح من حمولات وإسقاطات ودلالات بديعة وخلاَّقة.. «المدينة» المعنى للحضارة والاكتشاف وتحقيق الأحلام والأمنيات.. لم يعودا «القرية ومدينة» قرية ومدينة.. لقد جعلت منهما رحلة انتقال البشرية إلى عهد السماوات المفتوحة بفضائها وفراغها المتمدد.. بقايا لأشياء كانت تسمى قرية ومدينة!
ربما ليس علينا أن ننادي بما ليس ممكناً أصلاً.. وهو إيقاف أو إلغاء التقنية الاتصالية الجديدة.. ولكننا حتماً قادرون على إيقاف كمية الدمار التي تلحق بوجداناتنا جراء تغول هذه البيئة الإلكترونية الاتصالية الحديثة..
لأن الأداة التي تنهض من خلالها هذه البيئة الاتصالية الجديدة هي الفرد هي الإنسان ذاته لا الجماهير أو الجماعات.. وبالتالي كلما يقوم به الفرد سيكون ذا آثر.. إن الأفراد في زمن الإعلام الجماهيري لم يكونوا رقماً أما اليوم فالفرد هو الرقم الصعب وبيده ما ليس في يد المؤسسات..
سنقاوم أفراداً عن أشيائنا الحميمة وعن تفاصيل أيامنا ولقاءاتنا وأفراحنا العفوية.. سنكون - بشراً لا رقماً - في ماكينة الأتمة الرقمية الهائلة.. لأننا حين نغادر أرواحنا من الداخل سنموت مثلما تموت البيوت إذا غاب سكانها..