قضيت أياماً بصحبة ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، الرواية التي تمنيت ألا تنتهي، ومنذ الفصل الأول منها أيقنت أنها من الروايات التي لا تمر بك مروراً عابراً، لكنها تمكث فيك وتظل، هذا بالطبع ليس بسبب ولعي بتاريخ وحضارة العرب المسلمين في الأندلس، ولا بسبب القصائد التي حفظتها منذ طفولتي حول الأندلس التي كانت تتردد في ذهني أثناء قراءة الرواية وعلى رأسها رثائية أبي البقاء الرندي التي ذكر في مطلعها:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد
ولا يدوم على حالٍ لها شان
وحتى البيت الذي يقول فيه:
وراتعين وراء البحر في دعةٍ
لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ
فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟
فتصيبني القشعريرة وكأن سقوط الأندلس قد حدث لتوه ولم يمض عليه قرون.. وقصيدة عمر بن أبي ريشة «في طائرة» وأجمل ما جاء فيها:
وأجابتْ: أنا من أندلسٍ
جنةِ الدنيا سهولاً وجبالا
وجدودي، ألمح الدهرُ على
ذكرهم يطوي جناحيه جلالا
بوركتْ صحراؤهم كم زخرتْ
بالمروءات رِياحاً ورمالا
ولكن لأن رضوى غزلت حكايتها بإتقان شديد وعناية فكانت تطوف بين السنوات بخفة وحذق لدرجة يتمثل لك صندوق مريمة الأخضر والزخارف التي تزينه، ومصحفها المخملي الصغير ومكحلتها الذهبية، الأناشيد والموشحات بصوت والدها والأعشاب والأدوية التي تمزجها سُليمة في القوارير والآنية الزجاجية، ورائحة الجلد الذي يغلف به أبي جعفر الوراق كتبه.
تشعر بطوب غرناطة المتراص، طرقها الضيقة وأزقتها الملتوبة وفساحة باحات منازلها وأشجار الليمون والبرتقال التي تظللها، بأسواقها الممتدة، بمشغولات الفضة وجلود الإسكافيين، بحرير مالقة وزيتون الجعفرية في جرات الفخار، وكتب قرطبة وعلمائها، بسطوة محاكم التفتيش وظلام العصور الوسطى وبالرحيل..
في الجزء الأول من الرواية «غرناطة» تأخذك رضوى إلى حي البيازين حيث يسكن أبي جعفر الوراق الذي شهد حادثة حرق الكتب في قرطبة وأحفاده حسن وسُليمة التي توسم بها المعرفة والعلم وذلك قبيل سقوط غرناطة بيد القشتالتين إثر معاهدة سرية عام 1491م بين أبي عبدالله الصغير وملوك قشتالته واراجون ايزابيلا وفرناردو وما أعقب ذلك من أحداث، ليصبح كل ما يتعلق بالعربية وأي دين أو معتقد أو هوية مختلفة تهمة تستوجب العقوبة.
العدوان كان يبدأ بتغيير الأسماء العربية ويصل للتعميد الإجباري، والحرق حياً حتى الترحيل
«ترحيل الموريسكيين القسري من الأندلس الذي أمر به فيليب الثالث عام 1609م إلى الشواطئ المغربية»، على عكس ماكان عليه الوضع في الأندلس من تسامح وتعايش بين المسلمين والنصارى واليهود، فاستحالت الفردوس لمأساة وجحيم.
«مريمة» الجزء الثاني من الرواية، الصبية الذكية والأم التي كانت غير مصدقة لما حدث ومتعلقة بأمل النصر ونجدة العرب في الشام والعراق ومصر لهم، تتأرجح بين الصمود والرفض والعصيان وبين التأقلم، كانت الأم بالحنكة والعطاء والتضحية، تعلمت أن تحلم وتعيش وتزرع بستانها الصغير رغم القمع حولها ورغم الخيبة والخذلان، تحدثت بالقشتالتية في الوقت الذي علمت أبناءها الحديث بالعربية وباعت الخبز الدافئ في سوق القيصرية بغرناطة، تدبرت أمرها وعاشت قدر المستطاع، كانت تدعو بالفرج وتتوكأ على رؤيا عبرتها لها «أم يوسف» بالنصر، انتمت مريمة لغرناطة دائماً لكنها أجبرت مثل غيرها من سكانها العرب على الرحيل عنها.
«الرحيل» وهو الجزء الأخير من الرواية يمُثل سيرة ملحمية، إذ تبدأ معالم الأندلس العربية تضمحل وتنسى فالكتب العربية التي خبأتها سُليمة ومريمة في قبو منزل «عين الدمع» ما عادت تهمة لأن لا أحد يتقن القراءة بالعربية.. ولا عاد لحارة الوراقين أي وجود. ثم يبدأ الترحيل القسري لعرب الأندلس عبر البحر ويصبح من سخرية القدر فرجاً لما يلقاه الناس من عدوان لكنه يظل ترحيلاً على أي حال، لا يفضله الأندلسيين الذي تمسكوا بأرضهم لآخر رمق وصمدوا عبر ثورات متتالية لم تؤتِ أكلها.
«يقررون عليه الرحيل، يسحبون الأرضَ من تحت قدميه، ولم تكن الأرضُ بساطاً اشتراه من السوق، فاصل في ثمنه ثم مد يده إلى جيبه ودفع المطلوب فيه، وعاد يحمله إلى داره وبسطه وتربع عليه فى اغتباط، لم تكن بساطاً بل أرضاً، تراباً زرع فيه عمره وعروق الزيتون، فما الذي يتبقى من العمرِ بعد الاقتلاع؟.. في المسا يغلقُ باب الدارِ عليه وعلى الحنين، تأتيه غرناطة، يقولُ يا غربتي! راحت غرناطة.. يسحبونها من تحت قدميه، ولم تكن بساطاً اشتراهُ من سوق بالنسية الكبير».
كنت أتساءل حين زرت منطقة الأندلس في جنوب إسبانيا أو Andaluc?a -بالإسبانية-كيف لحضارة استمرت لثمانية قرون أن تذوب وتصبح في ذهن العربي فردوساً مفقوداً وللأبد وكأن كل الذي مر ليس إلا حلماً جميلاً كما في أبيات القصيدة -سابقة الذكر- لأبي البقاء الرندي:
وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك
كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ
أو كما قيل في الموشح الأندلسي المعروف:
جادك الغيــث إِذا الغيـث همـى
يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمًــا
فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ
مسجد قرطبة الذي بناه بني أمية، القصور الأندلسية وحدائقها، الحمراء خاصة وجنة العريف، رائحة الخزامى التي تعبق في طليطلة وحقول الزعفران، قبر ابن زيدون وولادة الذي لا يلحظه أحد تقريباً يتوسط ساحة صغيرة في قرطبة منقوش عليه بحروف عربية لا تشكل أي أهمية ولا معنىً لها بالنسبة لأغلب المارين بها اليوم.
الحضارة الأندلسية لم تمت لكنها ببساطة تساقطت شيئاً فشيئاً دون أن يصدق أحد بذلك حتى أهلها الذين أقفلوا بيوتهم واحتفظوا بمفاتيحها أملاً في العودة وتكذبياً بالرحيل، حتى استيقظ الناس فجأة والعربية غريبة تماماً في الأندلس والمحزن أن تباع الآن مفاتيح كتذكرات للسياح في قرطبة التي يقال إنها تعود للأندلسين أو تعبر عما حدث لهم.
انتهى كل شيء، ثمانية قرون بعلمها وحضارتها وتسامحها وعلمائها، ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن الهيثم وابن البيطار وابن حزم والزهراوي وغيرهم، بقصائدها المترفة وشعرائها اعتماد وولادة بنت المستكفي، بفنها وبالقصور الفارعة، بالموشحات وزرياب. ولكن شعار دولة بني الأحمر «بني نصر» مازال شامخاً في غرناطة «لا غالب إلا الله» بخطٍ أندلسي ونقش لا يضمحل وعيون السياح تتخاطف حول قصر الحمراء وتجذبهم أشعار عربية جزلة تتكئ على جدرانه منذ أكثر من 500 عام، ولا زالت غضّة ورشيقة ولها زهو العربي وأنفته كما في قصيدة «غرناطة» لنزار قباني:
الزخـرفات.. أكاد أسمع نبـضها
والزركشات على السقوف تنادي
قالت: هنا «الحمراء» زهو جدودنا
فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي
سقطت غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس ونخيل العرب شامخة تطالعك في إسبانيا كلها أينما حللت.
- آلاء بدر الصالح