علي الصراف
تقف أوروبا على أعتاب منعطف تاريخي. وتدل بعض الشواهد على أن هذا المنعطف ينطوي على متغيرات جذرية في طبيعة العلاقات داخل دول الاتحاد الأوروبي، وفي طبيعة المشروع الأوروبي نفسه. وكذلك في طبيعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وبين الولايات المتحدة.
إنها متغيرات تكاد تكون من العمق بحيث تبدو وكأنها تؤدي إلى بناء عالم آخر، وتوازنات دولية غير التي عرفناها حتى الآن.
ولا ينكر المسؤولون الأوروبيون حقيقة أن «البريكست» البريطاني كان هو الدافع الأول. أما الثاني، فكان انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة. وأما الثالث، فيتصل بالعوامل الاقتصادية والشعبوية الداخلية التي تهدد بقاء المشروع الأوروبي.
كان الأمر بالنسبة للقادة الأوروبيين بمثابة مجموعة متكاملة من الصدمات المتتالية، أجبرتهم على رفع الرؤوس من وسادة الأحلام المخملية.
الثقة الزائدة، بأن الاتحاد الأوروبي يمثل فائدة عظيمة ومشتركة لجميع الدول الأعضاء، قد اهتزت. والاعتقاد الراسخ بأن الوحدة الأوروبية سوف تمضي إلى الأبد، قد تصدع. والركون إلى التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة، بما يوفره من ضمانات دفاعية، قد تزعزع. وفي النهاية فقد أصبح من المطلوب أن يعاد النظر في كل شيء تقريبا، ابتداء من طبيعة الاتحاد وأولوياته، ومرورا بالحاجة إلى التعايش مع ثالث أكبر قوة أوروبية تختار الانفصال عنه، وصولا إلى ما يبدو أنه علاقة «عفا عليها الزمن» عبر الأطلسي.
أوروبا الراهنة، على هذا الأساس، لن تعود هي نفسها في غضون السنوات الأربع المقبلة. حيث يتعين عليها أن تحسب الحساب مع الولايات المتحدة من جهتين اثنين: الأولى، أن يبقى الرئيس ترامب في السلطة لأكثر من أربع سنوات. والثانية، أن تتواصل سياساته حتى لتصبح سمة عهد جديد في العلاقات بين الطرفين، وهو ما سوف يعني أن «الترامبوية» يمكن أن تستمر لوقت طويل إلى ما بعد ترامب.
هذا الحساب يزيل من الأساس الافتراض القائل بأن العلاقات مع الولايات المتحدة يجب ألا تكون رهنا بسياسات رئيس بعينه. فما يقترحه الرئيس ترامب من شروط اقتصادية ودفاعية ليست من دون مبررات، كما أن تأثيراتها سوف تترك بصمة ثابتة على العلاقات بين الطرفين. وعلى هذا، فإن دورة العلاقات التاريخية لن تعود إلى طبيعتها السابقة بمجرد خروج الرئيس ترامب من السلطة بعد أربع أو ثماني سنوات.
هناك إذن عدة قضايا كبرى يتعين وضع تصور مشترك لها. وهي:
أولا، كيفية التعامل مع البريكست البريطاني، بحيث لا يؤدي إلى زعزعة أسس الاتحاد بين الدول الـ27 الباقية. ولكن، في الوقت نفسه، من دون أن تتحول العلاقة مع بريطانيا إلى علاقات صدام أو تنازع.
وثانيا، التهديد الروسي. فمن الواضح أن روسيا تسعى لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، على الأقل، على الكتلة الشرقية للاتحاد.
وثالثا، الأزمات الاقتصادية التي ما تزال تلقي بظلالها على كفاءة الاتحاد الأوروبي.
ورابعا، مصير الحلف الأطلسي، ومصير الدفاع المشترك لدول الاتحاد، وسبل التعامل مع التهديدات التي يمثلها الإرهاب، وموجات الهجرة، ونمو الظاهرة الشعبوية الانفصالية.
لا يوجد اتفاق بين الأوروبيين حول كل هذه القضايا حتى الآن. ولا حول العديد من التفاصيل الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بها.
لقد عاد القادة الأوروبيون إلى التساؤل: أي اتحاد نريد؟ ولكن من يقرأ ما تقوله المؤشرات سوف يدرك تماما أن أوروبا جديدة سوف تنهض من تحت رماد «البريكست» و«الترامبوية» والأزمات الداخلية.