«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
في بلادنا وحتى غير بلادنا منح الله مكانة خاصة لرجال الدين وعلى الأخص العلماء الأجلاء، ولقد رفع الله تعالى من منزلة العلماء قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. ولقد استشهد بهم سبحانه في أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال تعالى:
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه. لذلك تجد لهؤلاء مقامهم الرفيع ومكانتهم العالية في نفوس الجميع الكبار والصغار. وهكذا وجدت هذه المكانة في قلوب الناس تقديرها والمحافظة عليها أباً عن جد بل هناك من يعتز ويفخر بوجود أسر وعائلات علم ودين في منطقته أو محافظته أو مدينته.. وكما هو معروف تتضاعف مكانة وقيمة العالم يوماً بعد يوم كلما كان متميزاً بعلمه وثقافته الدينية وحتى تواضعه وما يطرحه في مجتمعه من فتاوى تتسم بالحكمة. ومنذ كنا أطفالاً صغاراً وبعدها فتية، بدأ الشعر يزحف فوق شفاهنا ونحن نقدر ونحترم (الشيخ) فهو صاحب المكانة الرفيعة بل العظيمة في مدينتنا فنسارع في إفساح المجال في الطريق إذا صادفنا ونحن نلعب فيه، فكنا نتوقف بسرعة عن اللعب، وكانت أيامها ألعاباً بسيطة وشعبية كالخطة أو لعبة «الهول» أو حتى الدوامة كنا نلتصق بالجدار ونحن نحيي فضيلته وهو في طريقه لمسجد «الفريج» أو في طريقه لزيارة أحد بيوت معارفه وأصحابه، فكان من سمات العديد من العلماء والشيوخ الاهتمام بالتواصل الاجتماعي عبر الزيارات والمشاركات الإنسانية خصوصاً لتقديم واجب العزاء أو السؤال عن صحة مريض. وكم كانت تسعدنا كلمات: فضيلة الشيخ «وهو يردد بصوته الخفيض المحبب.. بارك الله فيكم. بارك الله فيكم. ويعقبها باسماً. لا يشغلكم اللعب عن الصلاة».
وطوال أيام طفولتي وحتى فتوتي ونحن في مدينتنا التي كانت صغيرة ومحدودة المساحة لم ألحظ أن أحد الشيوخ في مدينتي اتسم بسيرة شامخاً أو فخوراً أو حتى متعالياً، كان جلهم رحمهم الله وأمد في أعمار من بقي منهم، يتمتعون بروح السماحة والبساطة وحتى التواضع الرائع ولقد أتاحت لي الظروف أن شاهدت عدداً منهم في مناسبات اجتماعية في بساتين النخيل وهم يتبادلون الأحاديث اللطيفة والحكايات الباسمة التي تجعل من يستمع إليها لا يملك نفسه من الضحك، وكم شهدت ضفاف عيون مياه الأحساء ومزارعها ونخيلها لقاءات ودودة ولطيفة بين العلماء والشيوخ ومعارفهم وحتى البعض من الأهالي حول موائد الطعام التي تقام في هذه الأماكن التي كانت مفضلة لدي الجميع أو حتى في بساتين الأعيان والأثرياء.. ولقد اتسم بعض العلماء بعلمهم الغزير، وكانوا بالتالي وبالنسبة لنا -نحن الفتية- منبع العلم والحكمة ومصدر المعرفة وحتى الفتوى، وكم ذهبت أمهاتنا إلى بعضهم عندما يمرض أحد الأطفال ليقرأ عليه الشيخ، بل هناك من تحمل معها زجاجة ماء ليقرأ فيها، وفي المناسبات الدينية كشهر رمضان والأعياد كان مجلس «الشيخ» يأتي بعد مجلس الأمير، حيث يتراكض الجميع للسلام عليه وتهنئته.. وما زالت هذه المكانة لعلمائنا وشيوخنا معاشة وتحظى بالتقدير والإكبار الدائمين من الجميع.