د. محمد عبدالله العوين
تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي أخبارًا متواترة عن تبرعات سخية بملايين الدولارات من رجال أعمال سعوديين لمشروعات، زعم أنها خيرية في دولة عربية، وأخرى إفريقية غير عربية.
فأحدهم أعلن تبرعه بثلث ثروته للأعمال الخيرية وبناء ثمانية مستشفيات لمعالجة الفقراء في بلد عربي، وثانٍ يتبرع بنصف مليار دولار لدعم مشروعات الطاقة الشمسية فيه، وثالث يتبرع بأكثر من ستة ملايين دولار لإنشاء استاد رياضي بدولة إفريقية!
كيف استيقظت هذه المشاعر الخيرية النبيلة في وجدان هؤلاء فجأة، وارتحلت لتحط بعيدًا؛ وكأن عيونهم لا تبصر أن ثمة فقراء في أماكن مختلفة قريبة منهم، لم يعيروهم أهمية؛ فلم يفكروا في بناء مشروع خيري واحد، لا ثمانية كتلك التي يزمع القيام بها رجل الأعمال لمعالجة الفقراء في بلد عربي؟
ومع الأسف، إن من ينوي بناء المستشفيات الخيرية في غير وطنه، ومثله من يعلن دعم مشروعات الطاقة، لم يقدِّما للفقراء المحتاجين للعلاج ممن يراجعون مستشفياتهم في بلادنا أي جانب من جوانب الدعم، كخصم خاص لذوي الدخل المحدود ممن لا يشملهم التأمين الطبي الذي يحظى به عادة موظفو الشركات الكبرى، أو تبرع من مستشفياتهم بعلاج حالات خاصة، أو تخصيص مركز لغسيل الكلى للفقراء تخفيفًا من الضغط على المستشفيات الحكومية، ونهوضًا بما يستوجبه الشعور المتيقظ بقيم الإحسان وفضائل الصدقة والانتماء إلى الوطن.
ويثير هذا الاندفاع الجماعي الغريب فجأة من فئة معينة من التجار إلى فعل الخير في غير بلد الخير الذي يسَّر لهم بناء ثرواتهم أسئلةً محيرةً عن الدوافع الحقيقية خلف نزعات الفضيلة المفاجئة، وكيف أنها لم تجد مكانًا مناسبًا لاستنباتها ورعايتها ونشر خيراتها على المحتاجين والفقراء هنا في وطنهم؟ ولِمَ غابت الفطنة عن استحضار ما يجب فعله للإسهام الخيري في بناء مشروعات رعاية - لا تجارة - كما هو الشأن بما يزمع فعله إن صدقت النية في البلد العربي والإفريقي؟!
لكن صديقي ممن يزعم أن لديه قوة حدس عالية ونظرة ثاقبة، تدرك ما وراء الأخبار المعلنة، يذهب مفسرًا تلك النزعات الخيرية التي تفجَّرت بغتة دون مقدمات؛ فهجرت مليارات الدولارات تحت لافتة جميلة محببة للنفس، لا يمكن أن توجه اللائمة إلى فاعلها إلا من باب أن الأقربين أحق بالمعروف.. يرى أن وراء هذا الاتجاه الخيري المعلن أهدافًا أخرى غير معلنة، ويفسرها صاحبنا بأن الغايات المبطنة تختلف كل الاختلاف عن الإعلانات الظاهرة السافرة المتخذة ستارًا للهروب من الإسهام في مشروعات الوطن وبنائه باستقطاع نسبة قليلة لا تكاد تذكر من دخول أصحاب المليارات والثروات الهائلة بفرض رسوم على ثرواتهم، كما هو الشأن في كل دول العالم مع أصحاب الثروات الكبرى والدخول العالية.
ويواصل صاحبنا الحديث: «ولذلك يتحايل بعض أصحاب الثروات الكبيرة لتسجيل أموالهم ورهنها في مشروعات خيرية، سواء كان ذلك في الداخل أو الخارج، وكانت حقيقية أو وهمًا؛ لينجوا من دفع الرسوم المستحقة عليهم».
والمثير في قضية من أعلن خيريته في الخارج، ونسي الداخل، أن الذكي الفطن لا يمكن أن يغيب عن حسه إدراك الرغبة المبطنة في تهجير الأموال إلى الخارج؛ للنجاة من الرسوم، وأنها أقرب من الرغبة المعلنة إلى فعل الخير.
وسيأتي من يقول إن فعل الخير أمرٌ طيب ومحمود في الداخل أو الخارج للمحتاج وللفقير.. وهو كذلك، ولكن الأولى بكسب مغانم فعل الخير هم أهل البلد، والأقربون أولى بالمعروف؛ فليس من اللائق أن يتصدق رجل فاحش الثراء على من لا يعرف، ويدع محتاجين أو فقراء من عائلته، وممن يعرفهم من أقربائه، ويذهب بعيدًا يبحث عمن يستحق صدقاته!
ولطالما تحدث المخلصون بأن للوطن على أصحاب الثروات الطائلة حقوقًا وواجبات، فإن لم يستيقظ الحس الوطني فيهم فلا بد من إيقاظه بقوة الأنظمة. أما أن تُهجَّر المليارات إلى الخارج تحت اسم فعل الخير فالأولى أن يسمى الفعل باسمه الحقيقي، وهو العقوق والهروب من دفع ما يستحقه الوطن على هؤلاء التجار.