ياسر صالح البهيجان
تصنع الجماعات ذات المرجعيّة الأيديولوجية الواحدة نماذج مفاهيمية خاصة بها انطلاقا من تجربتها التاريخية وموروثها الثقافي بغية شرعنة تصوراتها ورؤيتها للواقع لتبدو كمسلمات لا تحتاج إلى البرهنة والاستدلال. وتعمل تلك النماذج على إيصال جملة من السمات دفعة واحدة بأقل عدد من المفردات لتحقيق غرض التفاهم والتواصل، وتتجه عادة إلى تعميم التصوّرات وترسيخها في ذهنيّة المجتمع ليتمثلها في حياته اليوميّة، ولتتحوّل إلى مقياس يحدد صحّة التصرّف وخطئه، وتشرع أيضًا لعقوبات لفظية أو جسديّة ضد أولئك الرافضين لمبادئ النموذج أو المتمردين عليه.
الخطابات المتشددة أسست نموذجها المفاهيمي على مبدأي الوعد والوعيد، فمن أيّد نموذجها يترقّى في سلمها الاجتماعي المخصوص وقد يصل في مراحل متقدّمة إلى حد الرمزيّة والحُجة وهو أعلى مراتب السلّم، ومن خالفها فإنه يواجه الإقصاء والعنف وأحيانا التكفير كحيل دفاعيّة تروم الانتصار للنموذج والحفاظ على هويّته بوصفه جزءًا من هويّة الجماعة وأحد أركانها الفكريّة الرئيسة التي تمنحها المشروعيّة في ممارسة نشاطاتها التأثيرية في الحشود والجموع داخل المجتمع.
خطورة النموذج المفاهيمي في الخطاب المتشدد تكمن في المضمرات النسقيّة التي يخفيها خلف تسامحه المُعلن، ذلك التسامح الهش الذي ينهار سريعًا عند الاختلاف والتعددية الفكرية وحرية اتخاذ القرار، أي أنه تسامح مشروط وله سقف محدد، ومتى ما تجاوز الآخر ذلك الحد فإن التسامح يتلاشى وحينها يسيطر العنف وحده على المشهد، ويُعلَل بأنه ضرورة للحفاظ على القيم والمبادئ، وهو تعليل واهٍ يخفي الرغبة النفسية المضطربة لدى المتشددين والتي حوّلت الممارسات العنيفة إلى حالة إمتاعيّة تلبي الجوانب الغرائزيّة المعتلّة والمشوهة واللا إنسانيّة.
الإشكاليّة الكبرى في آليّات تكوين الخطاب المتشدد تتمثل في مراوغته وتسلل أنساقه الهدّامة والإقصائيّة إلى أفراد المجتمع عبر الأثر الوجداني وليس البرهان العقلي، وتبرز تلك الممارسة في نوعيّة الشواهد الاستدلاليّة المبثوثة داخل الخطاب، وطبيعة النبرة الصوتية المرتفعة، ومؤثرات الصدى الصوتي الذي يهزّ أرجاء المكان، إضافة إلى اصطناع البكاء كوسيلة للإقناع والتأثير، وهي جملة من الحيل الثقافية التي تخاطب الوجدان وتجعله طاغيًا على سيطرة العقل، وهي حالة يغيب معها وعي المتلقي ويغوص تدريجيًا في مرحلة لا واعية تنطلق من التعاطف مع المتحدث إلى درجة تصديق ما يقول حتى وإن كان ما يُقال وهمًا وزيفًا لا يصدقه عاقل.
الوعي بتحركات الأنساق المضمرة في مضامين الخطاب المتشدد أولى مراحل كشف تهديده لمنظومة الفكر المعتدل داخل أي مجتمع، والواقع ينبئ بأن سقف المعرفة بخطورة تلك الأنساق بدأ فعليًا بممارسة سلوكه النقدي والتفكيكي لدى المجتمعات الحديثة، وهذا ما يفسّر تراجع قدرة الخطاب المتشدد على النفاذ إلى شريحة كبرى من الأفراد كما كان يفعل ذلك في الماضي، ويفسّر أيضًا اضمحلال شعبيّة رموز ذلك الخطاب وتحول أتباعه من مرحلة الحشود العمياء إلى مرحلة المتابعين المدركين والمتسائلين والرافضين.