د. عبدالحق عزوزي
من يزور دولاً مثل كندا ويبصر كيف بنيت البلدة من لا شيء، من مهاجرين قدموا إليها من كل الأمصار، يدرك أن الذي نحن في حاجة إليه في الوطن العربي، هو الالتزام بالذكاء والدبلوماسية السياسية والاحتكام إلى قواعد العقل السليم. وأظن أن ذلك هو الحكمة، والحكمة هنا هي العلم الصحيح الذي لا يقبل الخطأ {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (269) سورة البقرة، وهو ليس فقط في مجال الاقتصاد والاستثمار وإنما أيضاً في مجال العلوم الإنسانية، وإلا بغيابها فإن العباد والبلاد قد تصل إلى مستنقع غير منتهٍ من الظلمات والصراعات وستتوقف هياكل الدولة رويداً رويداً اقتصادياً واستثمارياً واجتماعياً بل وثقافياً كما يقع اليوم في دول كالعراق وليبيا، وهذا طبعاً نقيض الحكمة وعنوان التخلف ومسؤولية تجاه التاريخ وتجاه الخالق عز وجل... فما ذنب الملايين من العراقيين والليبيين الذين يزج بهم في صراعات كان بالإمكان تفاديها، وأخطاء علمية لا تقبل بها العلوم السياسية، ولو طبقت دروس هذه العلوم لنجا الجميع...
ثم إنه ضروري ونحن نتحدث عن الإصلاح أن نتوفر على أدوات ومنظومات لترسيخ قيم العقل والتسامح والاجتهاد وروح التجديد والانفتاح على الغير، ونبذ الكره والتعصب، وتحري النسبية، والتخلي في البرامج التعليمية منذ الابتدائي والثانوي على تقديس ما تفضل به البشر أو رفعه من مرتبة هي مرتبة الرأي إلى مرتبة النص الديني الملزم. وأقول هذا الكلام لأن المدرسة هي الشركة التي يصنع فيها المواطن وتبنى فيها قيم المواطنة وهي التي تحدد إرادة أي مجتمع ونوعية المواطنين الذين نبتغيهم لمجتمعاتنا.
التقيت في محاضرة دعيت إلى إعطائها بمغاربة وعرب وصلوا إلى أعلى المراتب أي في دوائر القرار في شركات مثل بومبارديي، ووصلوا إلى دوائر القرارات السياسية، ولهم في المجتمع الكندي هالة من الاحترام والتقدير، ولا أحد يتحدث عن جنسيتهم وإنما فقط عن كفاءاتهم، لأن هذا المجتمع يقدس العقل ويحترم الإنسان...
وإذا صح لنا أن نلخص ضرورة ما يجب الالتزام به في كل قطر من الأقطار العربية في كلمة واحدة لقلنا أن ذلك يكمن في الحكمة، والحكمة هي التي تسقي جذور الإصلاح، وهي التي تبني المجال السياسي العام والمجالات الاقتصادية والتنموية على أصول لا تحور ولا تبور، وهي التي تجعل من الفكر عقلاً ناهضاً، ومن المجتمع مجتمعاً سوياً، ومن كل الأجهزة مؤسسات تبني وتتكيف مع الواقع والمستقبل، ثم على هذا العقل أن ينجح في التموقع داخل العولمة بطريقة ذكية وناجعة لكي يكون منتجاً وليس مستهلكاً....
ولما كنت أتحدث عن «مكانة المغرب وتأثيره في العالم» بدعوة كريمة من المركز الثقافي المغربي «دار المغرب»، أبرزت من بين ما أبرزته في محاضرتي عن تجارب مثل تجربة الصين التي نجحت في هذا النوع من التواجد في إطار النظام العالمي الجديد والعولمة التي لا ترحم. فهذا البلد استطاع فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» يسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا اللتين تسعيان إلى تصدير النموذج الغربي زاعمة أنه لا يمكن تحقيق أي نجاح دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي بل وأيضاً نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فدولة الصين مثلاً، ما دام أن أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل، موازاة مع نجاح هائل في تحقيق الثورة الاقتصادية وتحقيق الغلبة في الميدان الاقتصادي بناء على قواعد لم تفهمها بعد العديد من الدول الغربية، كضرورة اليقين بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق- عدو» وإنما في إطار «رابح - رابح» فهذا المثال الذي سردته، هو سر نجاح دولة الصين مثلاً، وسر نجاح أيضاً الدبلوماسية المغربية اليوم في الكثير من علاقاتها مع الدول الأخرى... فالبلد من خلال قراءة جيدة للنظام العالمي الجديد ولقواعد العولمة، فهم أن مستقبل العلاقات الدولية لم يعد يكمن حصرا في الشراكة النسبية «شمال-جنوب» وإنما أيضاً في الآفاق الواعدة والغنية للتعاون «جنوب-جنوب» انطلاقاً من قواعد عقلانية ومقبولة عند الجميع ليس فيها رائحة التعالي أو الهيمنة أو الاستعمار الجديد ولعل أقدسها قاعدة «رابح-رابح».