قال لي وهو يحاورني: هل عرفتم من قبل «البورجر»، و»الدكتور كيف»، و»الشيبز»، وهذه القصور الشاهقة، و»المفطحات»، و»الغنج في الرقصات»، و»الشباب أصحاب الصرعات»، وهل عرف جدودكم الحذاء الرياضي، واللمّاع، والثياب المزركشة من كل لون، وهل عرف شعراؤكم المسبحة والخاتم؟، وهل امتلك بدويّكم هذا الكم من الإبل، والمساحة، والبيوت التي توصف بـ «VIP» إلى غير ذلكم... هل عرف جدودكم كل هذا؟
إذا عرفوه فهم أهل نعمة، وأهل استقرار، فلماذا إذا تستعرضوه؟، وإذا كان ذلك هو الواقع! فما حظ التعليم بين كل هذه الانتفاخات؟ وأزيد على ذلك، هل عرف جدودكم الأزفلت، والخير الوفير في الأسواق، لدرجة أن العطور في كل مكان «العود وسواه).
هل عرف جدودكم كل ذلك؟
قال ذلك وقت تجوالنا في الجنادرية..
قلت له، وهو قد عايش الحضارة الأوروبية الحاضرة.. ألا تعرف الصورة؟ إن كل ما ذكرته سابقًا يمثل صورة محرَّفة عن ماضٍ لم يكن يعرف إلا المتواضع منه.
استغرب.. كيف؟
قلت له: كان جدي العربي رجل حرب بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وكلمة «حرب» لا تعني سفك الدماء بقدر ما تعني الدفاع عن النفس، لم يعرف الغنج في رقصاته هذه التي تقول، ولم يعرف المفطحات لدرجة أن القبيلة كاملة قد لا يوجد فيها من الماشية ما يُجِّمل المضيّف عند الضيف، فكلها عجاف، والبيوت تخلو من الحَبّ (الذرة والبر والشعير) إلا ما ندر، لدرجة أن بعضهم لا يعرف خبز (البر)، ولا اللحم إلا في الأعياد إن كان يملك هو أو أحد أقربائه شيئًا من هذا.
رجل حرب، لأنه يكافح من أجل البحث عن لقمة العيش له ولأبنائه لدرجة أن بعض العوائل تموت جوعًا على الرغم من وجود الأرض التي لا تتجاوز مساحتها الأربعمائة متر، وهي مع ما حولها تمثل مدرجات في بعض المناطق (مثل منطقة عسير)، قال أوه أوه نعم عرفت ذلك عندما زرت المنطقة قبل فترة من الزمن أيام خضرتها وبهائها، لكنني قد زرتها أخيرًا فرأيت شيئًا عجيبًا..
رأيت ماذا؟ قال: انحسار الخضرة، ودمدمة البلاد (المزارع) والعبث في كل مكان من قبل من يَدَّعي السياحة، حيث الكتابات في كل مكان، إِذ لا تخلو هضبة ولا جبل من الذكريات الفجّة... قلت: أنت بهذا قد خرجت عن حوارنا «حول الجنادرية»؟ قال نعم نعم، أرجو أن تواصل، وكيف كان جدودكم وعلاقتهم بالحياة التي قلت إنها تختلف عن هذا الماثل أمامي، وهذا يعني أنه ليس مهرجانًا للتراث الوطني، بل أصبح سوقًا، فيه صورة مشوهة عن الماضي، لكن جمَّلها البريق الذي صاحبها.. أليس كذلك..؟
قلت نعم.
يا سيدي جَدَّي العربي لم يكن يلبس حذاء فلم يعرف حذاء الرياضة ولا اللمّاع ولا البشت ولا الثوب المزركش، جدي كان ثوبه مهلهلاً، مشلَّعًا مخرقًا، وحذاؤه إن كان يملك حذاء، فهي من جلد مشدودة بنسعة كي لا تسقط، أو هي مصنوعة من حُصر متبقي من بعض الفّرش، وبيته (عشة) أو بيت طيني (دور)، إن كان من الموسرين أو غرفة من حجر، وعلى فكرة لم يكن يبنيها لوحده، بل جماعته يتعاونون في البناء ويظلون معه حتى يسكنها..
جَدَّي العربي لم يكن يعرف من العود إلا «الحبشوش» وهو عطر آت من الحبشة، و»روح الروح»... إن كان يملك شيئًا من المال ويحاول أن يتزين به أيام الأعياد وأحيانًا الجمع.
جَدَّي لم يكن يعرف «الدوف» ولا «الهيد آند شولدرز»، لم يكن يعرف إلا «الجاوي» وهو أنكاس تأتي من جاوه في إندونيسيا، حيث يوصلها الحضارمة..،
جَدَّي ما عرف إلا البهائم التي عايشها والناس (أقربائه) الذين هم حوله.
جَدّي العربي يا سيدي لم يكن يعرف بنكًا، فلا رصيد له، قاطعني في الكلام:
إذًا ما عرف الراجحي ولا البلاد ولا الأهلي؟ التي نرى صرافاتها في الجنادرية، قلت نعم هذه بنوك حديثة، أحدثها الزمن والواقع والحياة، لقد كان من يملك مالاً يخبئه في بيته أو في الجدر أو في أماكن يعرفها وإذا كانت هناك من صورة قريبة لهذا المهرجان، فإنما توجد في الحجاز (مكة والمدينة وجدة والطائف) بحكم قربها من الحرم والاحتكاك بالناس من كل مكان، ووفود الأموال لها من كل حدب وصوب، ثم قلت له: تلك أماكن شملتها دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا وجميع الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
قال والشعر؟
قلت: جَدَّي العربي يعرف الشعر بطبعه، فهو شاعر لكن شعره عبارة عن كلام يتخلص عبره من وجدانيات داخلية، ثم قلت له ألا تعرف ماذا قال أحد أدبائكم في أوروبا عن الشعر، قال ماذا؟ قلت إنه يقول: إن الشعر هو التخلص من الذات ولم يكن مثل صاحبنا العربي الذي قال: إن الشعر هو: المعنى الجميل الذي يتقيد بوزن وبقافية.
قال: وهل هو يتختم ويلبس هذه الملابس الزاهية التي نراها عند شعراء الجنادرية؟!
قلت له: ليس شيئًا من ذلك..
لم يعرف الخاتم، فكان لبس الخاتم مقصورًا على من يستحقه، إما شيخًا لقبيلة، أو منتصرًا في مواجهة، فهو قائد مجموعته، فقط أما غيرها فلا يلبس.
قال والمسبحة؟
قلت المسبحة شيئًا شكليًا،
قال إذًا ما تعني، هل هو يسبح بها؟
قلت: بعضهم يأخذها هكذا؟، ولكن ينبغي أن نحسن الظن، فهو يسبح بها في معظم الأحيان إن كان متخلصًا من كبريائه، فمعظم الشعراء في مثل هذه المهرجانات يشعر بشيء من الكبرياء، ولا اتهم أحدًا، ولكن ربما يكون ذلك.
جَدَّي العربي كان يذكر الله في صبحه ومسائه على الرغم من أنه لا يحمل مسبحة، ولا شهادة علمية، يخرج إلى مزرعته فيذكر الله، وفي طريقه يذكر الله، وفي عودته يذكر الله، يقرأ القرآن في الصباح الباكر، وقبل نومه يقرأ القرآن، إذا دعا الله استجاب له بالمطر والخير من حوله، يطلب الله في الستر، فيستره الله، ويصلح له أولاده، خرج من هذه الدنيا وهو نظيف، لم يترك مالاً ولا جاهًا، إلا السمعة الحسنة، وأولادًا يدعون له، وهذا هو العمل الصالح.
قال لي: وأنتم الآن كيف وضعكم في حياتكم؟!
قلت صورة ممسوخة كما تراها في الجنادرية، لا تمثل شيئًا بالنسبة لجدودنا... صحيح أننا نملك شهادات وبيوتًا، وعرفنا الألوان الحضارية بحكم ما وفرته لنا دولتنا وفقها الله فنركب أحسن المراكب بينما جَدَّي العربي لم يعرف إلا البهائم، أقول لسنا مثلهم في طيبة القلب، والتعلق بالخالق إلا ما ندر، والنادر لا حكم له، عندنا شباب، ولكن شباب هذا العصر غير شباب العصور السابقة، إِذ إن الحضارة قد ميعتهم في معظم أحوالهم، زاد على ذلك معطيات الحضارة الغربية والشرقية من لاقطات وفضائيات ووسائل تواصل،
شباب لم يعد الالتزام منهجًا لهم، لدرجة أنه يلبس أي ملبس، أما لمطرب عرفه، أو للاعب خبره... ثم نظرت عن يميني، قلت له انظر: هل ترى ذلك الشاب الذي يلبس ملابس الكاوبوي وهو في الرياض، أو ذاك الذي يلبس قميصًا مكتوبًا عليه: «ميسي: ... هزَّ رأسه، فقال نعم..
قلت إذا هؤلاء مثل شبابكم الذين ما تعبوا في تكوين المصانع ولا قاعات العلم والدرس والاختراعات...
قال: نحن لا نأبه لمثل هذه الأشياء، فعندنا علماء، وعندنا صُنَّاع، لكن هل لديكم علماء ومصانع؟!
قلت نعم لدينا قدرات في كل فن، ولكن دولتنا بما حباها الله من نفط قد اتاحت لهم فرصًا في الجامعات، أما المصانع، فاكتفينا بما نأخذه منكم لقاء المال..
فمن عندنا المال
ومن عندكم البضاعة..
أليس في ذلك تكافؤ للفرص، وليكن في معلومك أن الخالق قد وزع القدرات، فمن المستحيل تكون في مكان واحد كي لا يفخر أحد على أحد..
لقد طال حوارنا حول هذا الموضوع، فطلبت منه أن أعلق على ما سبق مدركًا أنه قد حكم على كل ما رآه من زوار وعينات ورقص وعمال وو... الخ
فأقول: صحيح أن الجنادرية في شقها التراثي «قد انحرفت عن المسار وهو انحراف أرجو أن يُعدّل في السنوات المقبلة، فما أجمل المهرجان الأول والثاني، إِذ أعطيا صورة شبه حقيقية عن ماضينا وكيفية صعوبة الحياة، بينما ما جاء بعدهما قد تأثر بمجريات الحياة فخرج عن المسار ليتأثر بمجريات العصر، ولأنه كذلك، فإنه لم يعد يعطي الشباب في عصر الفضائيات والتواصل صورة عن حياة آبائهم وأجدادهم..
إنني وأنا أنقل هذه الصورة عن الجنادرية الحاضرة، لا الجنادرية الماضية قبل ثلاثين سنة لأرجو أن يتنبه صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله لإعادة المسار، فهو مهرجان قد تبناه الحرس وأخذ من جهده وماله الشيء الكثير في ظل غياب الجامعات عن دورها، وكذا جمعيات الثقافة والفنون، وهيئة السياحة أخيرًا...
إنني أقول أن من حق الحرس أن يتصرف في المهرجان حسبما يراه، ولكن التراث ينبغي أن يبقى كما هو حتى لو بقي شكله في حيِّز ضيق من هذه الأرض الفضاء..
تحياتي لهذا الجهاز الذي اهتم بالثقافة اهتمامه بحراسة الوطن الذي نرجو من الله أن يدفع عنه كل شر، والسلام..
- أ. د. عبدالله ثقفان