وكلمة التهام لا تحيل للتبعية التي طالما استمرأها الأندلسيون حيال مملكة قشتالة. ولنتذكر أن مملكة بني الأحمر مثلًا قامت على مساعدة قشتالية مقابل تسهيل مهمة الاستيلاء على إشبيلية وغيرها، فكان من المنطق إذن أن يدفع ابن الأحمر الجزية ويحضر مجلس قشتالة بوصفه أحد رعاياها!
ما أقصده غير ذلك؛ فالحالة التي أعني ستكون معها الأندلس شبيهة بالأحواز العربية في إيران، وستمر بمرحلة من طمس لغتها ودينها وستذوب تماما في إسبانيا؛ إذ لا شيء يغريها بالصمود؛ فلا موارد عليها يُعتمد ولا جيرة من العرب المسلمين يؤمل فيها أو يُفتخر بها، مع العلم أن جذوة التدين ستظل تضطرم في نفوسهم وسيمارسونه سرًا كما حصل إبان محاكم التفتيش في العصور الوسطى. لكن إسبانيا لن تأبه كثيرًا لإسلامهم تمامًا كما لا يقلقها الآن إسلام سبتة وميليلية المستعمرتين ما دامتها تحت السيطرة التي يعززها أنهما لا ترغبان العودة إلى المغرب أصلا؛ فحالهما رغم كل الظروف أفضل من حال المغاربة. هكذا ستكون الأندلس؛ تحت السيطرة ولا يُتصور من إسبانيا التنازل عنها.
الخيار الآخر أن تبقى الأندلس مملكة مستقلة عن إسبانيا وعن المغرب، وإن سلمت أن تكون وطنًا لليهود-باعتبار التاريخ اليهودي فيها- قبل منحهم فلسطين من بريطانيا التي تسيطر على جبل طارق من جهة الجنوب؛ فستكون واحدة من أصغر الممالك في العالم.
وبغض النظر عمن سيحكمها، هل سيكون من سلالة بني أمية أو بني الأحمر أو من غيرهما لن يختلف الأمر؛ إذ ستظل مملكة، أو سلطنة عطفًا على إرثها التاريخي الذي لن تقبل معه أن تصبح كيانًا آخر. ولأنها مملكة/سلطنة عربية فلن تحفل بالديموقراطية حتى وهي جزء من أوروبا -جغرافيًا على الأقل- إلا بالقدر الذي تتملق فيه شعبها وأصدقاءها، وستظل بوصلة انتمائها في تردد دائم بين الجارين الشمالي والجنوبي. وستبقى في وعي الشماليين جسدًا غريبًا ومريبًا، كما هو حال تركيا (مع الاختلاف الكبير)، ولن تجد في قربها من الجار الجنوبي إلا ضررًا ووزرًا لا تسعد به إلا بالقدر الذي يذكرها باتجاه القبلة فقط.
أما الشأن الداخلي فالحديث ذو شجون لكن المحصلة لن تتسع لسوى احتمال وحيد لا ثاني له؛ عدوى التخاذل والرجعية كسائر العرب والمسلمين. ستسود القداح والليالي الملاح في أحضان قصر الحمراء، ووفد من منظمة «جينيس» للأرقام القياسية ترصد أكبر «مجبَّنة» وأطول سارية علم وأجمل باقة ورد وأكبر مسنة. وصحيفة الحمراء تنشر خبر حفلة أم كلثوم في القصر وتعلق اللافتات على جدران حي البيازين في إنجاز غير مسبوق. وهناك في وسط غرناطة، مكان تمثال كولومبوس والملكة إيزابيل، سينتصب تمثال ضخم للحاكم الذي يكمل عامه السابع والثلاثين سلطانًا.
ولأن الزلازل معتادة في تاريخ الأندلس وغرناطة، ستتقزَّم أبراج الحمراء ولن تكون الميزانية المخصصة من السلطنة الأندلسية الحديثة كافية لترميم قصور الحمراء إلا بما يسمح بإبقائها شاهدًا على الإهمال. عندها لن يتعرف شاتوبريان ولا بورخيس ولا معشر الرومانسيين والفنانين ولا حتى نزار قباني على فضاء الحمراء الحالم، ولن تعزف مقطوعة «ذكريات الحمراء» ولن تدرج في عجائب الدنيا الجديدة، وستكون بقايا جمال وبقايا حضارة لا يعرف كنه جمالها ولا عنصر فتنتها.
هنالك لا يملك العاقل سوى أن يحمد الله على الشر والمكروه كما يحمده على الخير تماما؛ إذ مع غصة الفقد والهزيمة ستبتهج النفس حين تظل هذه الشواهد في غرناطة وقرطبة وإشبيلية دليلًا للعالم على أن الحضارة العربية والإسلامية كانت حضارة العالم القديم وركيزة العالم المتحضر اليوم وملهمة الفنون والجمال، ولا عزاء لعرب اليوم حين يرتادون- زائرين- ما شاد أجدادهم ثم يرحلون، وقد كتبوا خلسة على بعض جدران الحمراء ما يدل على فداحة أن تقع تلك الحضارة في أيديهم:
«ذكريات: عاشق ميسي!
.... مدريدي للأبد!»
- د. صالح عيظة الزهراني