الأدب نتيجة طبيعية للتعبير عن الحاجات الفكرية والرؤى التي تتكون عبر مواقف اجتماعية للوطن وللقومية, وإن صدق هذه الآثار الأدبية هو المعيار الذي يحقق لها صفة الديمومة والخلود كون تلك الآثار الأدبية تتجذر في الوعي الوطني التاريخي وإن النقل الصادق للآمال والآلام النفسية والاجتماعية المشتركة بين الكاتب والمجتمع وهذه العلاقة بين الأديب والجماهير تقتضي بالضرورة أن يكون الأدب منفتحاً على نطاق واسع لا محدود ومن هنا فإن خصوصية الأدب تعني محدودية انتشاره وكلما اتسعت دائرة انتشاره اكتسب صفة الشمولية والتعميم وبذلك يصبح التأثر والتأثير صفة عالمية وبصمة يحملها الأدب في تأليفه الإبداعي شعراً كان أم نثراً. فعالمية الأدب تتأتى من خروجه من دائرة الذات والوطن واللغة الأم التي كتب بها إلى مدى أوسع وأفق أرحب من خلال انتقاله إلى لغات أخرى وبذلك يكون الأدب خارجاً من نطاق الذاتية إلى الآخر ومن المواطنة بمعناها الاجتماعي وحدوده الجغرافية إلى اشتمالها على البعد العالمي ليؤثر في آداب الشعوب الأخرى عبر تلاقح فكري بعملية التأثر والتأثير ليزداد الأدب اكتمالاً وهو يساير ركب الحضارات الأخرى فالأدب بذرة محققة بفعل وجودي من خلال انصهار الذات بالآخر وهذا التأثر والتأثير يثمر خصب معرفة وينتج ثمر ثقافة على أوسع مدى. وكلما ازداد التأثير والتأثر كلما ازدادت عالمية الأدب واتسعت دائرته الوجودية واكتسب صفة العمومية والعالمية لأن الأدب صورة لمجتمع وأياً يكن الأدب فإنه ينتج بخصوصية القطرية والبعد القومي بامتداده الأشمل معتمداً على ما يأتيه من الخارج ليتمثل به ويطبعه بطابعه فيكمل به ويتكامل معه.
فالتأثر والتأثير عاملان يسهمان في رقي الآداب وتطورها وهذان العاملان (التأثر والتأثير) هما من خصوصية الأشياء الوجودية, فلا حياة بلا تأثر ولا وجود بلا تأثير وإن التجارب الإبداعية للشعوب عبر تاريخها الطويل تثبت أن نهضاتها الفكرية إنما كانت نتيجة حتمية فرضتها عملية التأثر بالآخر فكل عملية تأثر وتأثير لا بد أن تحقق نهضة فكرية لتحقق المزيد من التقدم والتطور اللذين يحتاجهما أي مجتمع ليتقّدم. فيما تبقى للقومية وللوطنية خصوصية المحافظة على الأصالة وعلى مقومات اللغة وهذه المحافظة لا تلغي بدورها ضرورة الانتفاع والإفادة من كل ما هو جديد ومستورد.
وليس بخاف على أحد أن اللغات تغتني ببعضها وإن اتساع رقعة المعجم اللغوي لأية لغة إنما هو بفعل التأثر والتأثير بين اللغات
ولعله من نافل القول تأكيد أن الفرس قد تأثروا كثيراً بالعربية فالفرس لم يعرفوا الأوزان العروضية والقافية إلّا بعد الفتح الإسلامي كما أن الوقفة الطللية التي كان الشعر العربي يستهل قصائده بها باعتبارها سمة أسلوبية وتقليداً درج الشعراء على استهلال قصائدهم بما لم يكن الفرس يعرفونها لولا التأثر بالشعر العربي.
وليس ببعيد عن ذلك ما أحدثته رباعيات الخيام من أثر في الأدب الأوربي وكان الأثر البيّن لكتاب كليلة ودمنة بنسخته العربية الأثر الأبرز في ترجمته إلى اللغات الأخرى التي بلغت حدود الستين لغة وقد تأثر بها الشاعر الفرنسي لافونتين الذي كتب حكاياته على ألسن الحيوان وفي هذا السياق يمكن القول بأن تأثير كتاب (ألف ليلة وليلة) كان تأثيراً واضحاً وقد انتقل بترجماته عن الأصول اليونانية والفارسية إلى العربية ومن العربية إلى الآداب الأوربية وقد اقتبس عنه عناوين كثيرة لمسرحيات وقصص لكتاب كبار.
كما كان التأثير والتأثر في الأدب الأوربي واسعاً وقد تنوّع بدلالاته وتشعبّت موضوعاته التأثريّة ولعلنا نذكر في هذا المجال قصص الشّطار الإسبانية ذات الطابع الواقعي التي انتقلت بفعل التأثير من محدودية الجغرافية الإسبانية إلى المحيط الأوربي كله
وخلاصة القول في عملية التبادل الثقافي بين الشعوب أو ما يصطلح عليه بلغة الأدب التأثر والتأثير إنما هو ظاهرة اجتماعية في مضمونها لأن الأدب انعكاس لتلك العلاقة التي تتكونّ بين الشعوب وتظهر انعكاس تلك العلاقة بصورة الأدب المتأثر ولذلك فلا بد من دراسة التاريخ الاجتماعي للشعوب لمعرفة مدى التأثير والتأثر بينها.
- د.طامي دغيليب