وقفتُ على ضفاف البحيرة ، وزرقة مائها يغريني أن أغرف غرفة بيدي فنظرت إلى نقاء وصفاء الماء كزرقة السماء في يومٍ صاف وكيف ينساب من بين أصابعي دون أن يترك أثراً من بقايا مجموعته ! كل شيء مكشوف فترى السمكات بألوانها الجميلة وصويحباتها من بديع خلق الله يلعبن بمتعة وكأنهن في بطن غلاف زجاجي قد صُقل بمواد كيماوية لا يتسخ بعدها أبداً فترددت من الخوف أن أسير فأسقط لأنه قد خُيل إليّ أنه من قوارير ! وليس هناك أروع ولا أجمل من رسم البحتري بأبياته الجميلة لبركة المتوكل وفيها الكائنات البحرية وكأنها لوحة فنان استطاع أن يجسّد الصورة بدقة حسن اختيار اللفظ وصورها البلاغية وإليك بعضاً منها :
يامن رأى البركة الحسناء رؤيتها
والآنسات إذا لاحت مغانيها
بحسبها أنها في فضل رتبتها
تُعدُّ واحدة والبحرُ ثانيها
مابال دجلة كالغيرى تُنافسها
في الحُسْن طوراً وطوراً تباهيها
إذا النجومُ تراءت في جوانبها
ليلاً، حسبتُ سماءً ! ركّبتْ فيها
يصل لذكر السمك :
لا يبلغ السمكُ المحصور غايتها
لبعد ما بين قاصيها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنحةٍ
كالطير تنّقض في جو خوافيها
فنالت من كل جمال وحسن قطعة قد تفرّدت بها فتفرّدَ البحتري بأجمل وصف وأبدعه !
عندما رأيت البجع يحط على الماء كطائرة حربية عادت من مهمة وقد فرد جناحيه ينتظر نصيبه من سمك البحيرة وكأنه يداعبه ويلعب معه تذكرت بالية ( بحيرة البجع ) ! الرائعة للرومانتيكي الروسي الكبير تشايكوفسكي وكيف صاغها بحركات البجعات حين يتراقصن على الماء بقصتها المؤثرة وبفصولها الأربعة .
بحيرات البجع تعج بها مدن الثلج ويتساقط فيها زخات المطر ويحوطها الحزام الأخضر الممتع للنظر ! فلا ترى ما يقلقك إلا أن يخرج منها المارد فيشرب الماء كله فتظل أرضاً جدباء مقفرة كما في قصة السندباد والخيال العلمي ! وعلى ذكر مارد البحيرات حين كانت فرائصنا ترتعد خوفاً من حكايات الجدّات عن أسرار وغموض الماء فقد أدركنا صغاراً ما كنّا نعتقد بالأمس إذا غرق أحدهم في مياه العيون المنتشرة لدينا أن هناك مخلوقا من الجن يسكن قاع الماء وأن هذا الغريق وقع عليه الاختيار ليكون قرباناً لا بد أن يبتلعه ليسكن غضبه فنظل خائفين وجلين من أن نجرّب العوم فيه وننسى الروح البشرية المفقودة في حمأة الرعب ! وهذه قد تكون عادة متخلفة تسربت عبر التواتر الخرافي ! وقلة العلم والمعرفة دائماً تؤدي إلى انعدام الثقافة الواقعية بالوعي والسذاجة المشبّعة بالعاطفة الخاطئة فتجرنا إلى عادات أشبه بالجاهلية الأولى فإذا بنا فيما بعد نستغرق في الضحك من هذا الاعتقاد السخيف ونكتشف أن هذا الغريق أصلاً لا يجيد السباحة لأنه من خارج حدود المدينة !
- زياد السبيت