تميز خطاب التيارات السياسية في العالم بعد الحرب الثانية ببرامج وتسميات وشعارات تتساوق مع المخاض السابق للحرب والمهمات المستقبلية لكل تيار. تنقسم هذه التيارات حسب برامجها المعلنة والمستترة إلى يمينية ويسارية وأخرى تدعي الوسطية. ثم جرى ويجري تصنيفها غالباً على أساس مسمياتها وليس ممارستها في الواقع الاجتماعي.
من أشنع الأخطاء التي ارتكبتها التيارات السياسية عموماً هي عدم التمييز بين المطلق والنسبي، فعندما أصنّف تياراً أو شخصاً أو دولة أو منظمة أو مؤسسة أنها يمينية أو يسارية أو وسطية، فهذا معناه أن كل ما يبدر عنها هو يميني أو يساري أو وسطي بالمطلق، بينما يمكن أن يكون العمل المنجز يمينياً أو يسارياً من نفس الجهة في أزمان مختلفة. وبالإمكان القول أنَّ غالبية ممارسات هذه الجهة أو تلك هي يمينية أو يسارية!
أما بالنسبة للوسطية فلا توجد وسطية في صراع محتدم بين ظالم ومظلوم، فعدم اتخاذ موقف ضد أحدهما هو موقف بحد ذاته، وهو تخلّي عن الصراع أو عدم الإفصاح عن الموقف المضمر والذي يخدم الظالم في نهاية المطاف. لقد أُطلق على أدعياء الوسطية عدة تسميات مخادعة، منها مثلاً الليبرالية أو ألليبرالية ألجديدة أو النأي بالنفس أو عدم التحيز أو العقلانية أو الاتزان أو الحكمة أو غير ذلك، وكلها تسميات زائفة لا تمت للواقع العملي بصلة.
أَطلقت بعض التيارات ذات الممارسات اليمينية الواضحة على نفسها تسميات (يسارية)، ونالت بذلك ثقة الجماهير الشعبية - القليلة المعرفة - بسبب التصنيف اللا علمي على أنها يسارية. فالحزب (التقدمي الاشتراكي) في لبنان يعيق مأسسة الدولة ويمنع الانتخابات على أساس النسبية لتكريس الطائفية ويمارس عدائية مضمرة ومعلنة تجاه سوريا دعماً للإرهاب، وعلى الرغم من كل ذلك يصنف (يسارياً) تبعاً للتسمية فقط!
يبدو للوهلة الأولى أن التصنيفات تجري بحسن نيّة، ولكن التصنيف يجري ضمن صراع محتدم، وبالتالي لا يمكنه أن يكون بريئاً، وإذا صنّفتْ أي جهة (نفسها أو جهة أخرى) خطئاً، فالأمر سيّان بالنسبة لذلك الصراع سواءً كان التصنيف بقصد أو بدون قصد. الإشكالية الكبرى تكمن فيمن يسمون أنفسهم وسطيون، حيث يقدمون أنفسهم على أنهم خارج الصراع، ولكنهم في واقع الأمر ينصّبون أنفسهم قضاة لإصدار الأحكام المعلبة وصولاً إلى احتكار الحق في التصنيف. فإنْ كنت يمينياً أو يسارياً من وجهة نظرهم فأنت منحاز ولا يحق لك تصنيف حتى نفسك!
التيارات أو الشخصيات التي تدعي الوسطية تتهم كل ما عداها بالتحيز، ثم تصنّف التيارات والأشخاص بيمينيين أو يساريين على هواها وتوغل بذلك التصنيف دون وجه حق، وإذا كان لا بد من مثال، فقد صَنّف مدعو الوسطية تيارات وشخصيات عديدة على أنها يسارية، ثم أوغلوا أكثر من ذلك، حيث أصبح هناك تصنيف جديد لتلك الجهات بأنها علمانية ثم كافرة، وأخرى انتهازية وثالثة متطرفة...إلخ!
لقد عاث الرأسمال فساداً في الحركات الوطنية بواسطة هذه الفئات الطفيلية التي تسمي نفسها وسطية، وهو مستمر بذلك، ويبتدع سلسلة من التسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان لتشويه الوعي الجمعي، مثل المجتمع الدولي أو النخبة أو الليبرالية أو الخصوصية ... إلخ!
الفئات الطفيلية تلك لا تقتصر على تشويه معنى وماهية اليمين واليسار، إنما تهيمن على الإعلام والتعليم وتحاصر الوعي الفردي والجمعي وتشل تنمية الموارد البشرية وصولاً إلى شلل العملية التنموية بشكل عام.
- د.عادل العلي