د.عبدالله الغذامي
الثقافة التي تقول (من علمني حرفاً صرت له عبداً) هي نفسها التي تسخر من المعلم، والجاحظ يترجم هذه السخرية بقصة صادمة عنه حيث يروي أنه ظل يسمع عن معلمي الصبيان ورداءة عقولهم حتى عرف معلماً في بغداد وصفهم بالحكمة ورجاحة النظر، ثم سمع مرة أن هذا المعلم أقام سرادقاً للعزاء فرجع الجاحظ لبغداد للتعزية، وحدث أن سأل المعلم كيف ماتت المرحومة فتفاجأ بالرد أنه: لا يعلم، ثم روى له قصتها، وأنه سمع رجلاً في الشارع يردد البيت:
(يا أم عمرو جزاك الله مغفرة
ردي عليّ فؤادي مثلما كانا)
وهنا تعلق قلب المعلم بأمر أم عمرو هذه بما إنها من الجمال حتى خلبت قلب ذاك الرجل، ثم بعد مدة مر الرجل نفسه ولكنه كان يردد:
(لقد ذهب الحمار بأم عمرو
فلا رجعت ولا رجع الحمار)
وهنا استنتج المعلم أنها قد ماتت ولهذا أقام سرادق العزاء، ثم انفجر المعلم باكياً على المرحومة، وعند هذه النقطة راح الجاحظ يعيد حساباته عن صورة المعلم وراح يسخر بمزيد من السخرية مصدقاً كل ما يقال عن معلمي الصبيان، وراح يروي أن أهل صقلية ضعاف العقول لأنهم يأكلون البصل ويجالسون معلمي الصبيان، وهكذا تختزن الثقافة قصصها السلبية عن المعرفة، والأصل السالب لها هنا جاء من احتقار الطفل وكل صغير السن، في مقابل الكبير، وحكاية صقلية تكشف هذا بما إن البصل للنساء ،وبما أن المعلم للصبيان وهذا مصدر السخرية ممن يتصل بصلة لشيء نسائي أو شيء طفولي، ويأتي التعالي الفحولي ليغرس الصور السالبة التي تعلي من الرجال والكبار ضد النسوية والطفولة، ولم يك لأمر المعلم من سبب للتحقير لولا هذا الربط النسقي، وكل صغير طفولي هو مادة للتقليل عند الفحولة مثله مثل التعالي على كل ما هو نسوي.