عندما يزور المرء بلدات طينية أو حجرية قديمة مثل؛ أُشيقر، والخبرا وخيبر، ورجال ألمع ، على سبيل المثال، ويشاهد التكوينات السكنية المهجورة منذ عقود يدرك أن هنالك زمناً مفقوداً بكل جوانبه الحياتية لم يتم توثيقه بصورة كافية لا بصيغة روائية ولا بجهد علمي بحت.
ولعل القاهرة هي المدينة العربية الوحيدة التي تم توثيق حياة حاراتها القديمة روائياً، بصورة مبكرة نسبياً، بجهود روائيين أمثال توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ وغيرهما.
ورغم كثرة المؤهلين محلياً، خلال العقود الماضية، لكتابة رواية الطين بصورة تفصيلية إلا أن ما أمكن توثيقه يظل جزئياً وناقصاً ولا يرقى إلى استعادة ذلك الزمن المفقود.
ويأتي كتاب السيد جيمس بد James Budd (العاشرة والنصف عصراً، رحلة إنجليزي من عنيزة إلى مكة)، الذي عاش خمس سنوات متواصلة مدرساً لمادة اللغة الإنجليزية بثانوية عنيزة أواخر الستينيات الميلادية، سارداً سيرة مستفيضة لا لحياة صاحبها فحسب وإنما لحقبة فاصلة ثمينة بين مجتمع الحياة الطينية الخالصة وقيمه وتقاليده وأساليب عيشه وما تلاه من تغيرات كبيرة متلاحقة في العمران والمدنية والأحوال الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.
طرح السيد جيمس سياقات روائية متعددة في سردية واحدة. حيث قدم حكاية المجتمع الطيني ببيوته المتراصّة وطرقاته الترابية وعلاقاته المتشابكة وتقاليد المعيشة واللباس والمناسبات المتوارثة منذ القدم والمواصلات الوعرة. ثم استعرض موجة بدايات الحداثة والتطوير خلال فترة إقامته القصيرة من حيث ارتباط البلدات بطرق معبدة وتعميم شبكة الكهرباء وبدء البث التلفزيوني وقيام أبنية خرسانية حديثة في مركز البلد. مثلما تناول حياة الجيل الشاب وانشغالاته الثقافية والسياسية في فترة مشحونة بالتحولات محلياً وعربياً. ولم يغفل عن رصد المناخ الفكري بتياراته المختلفة وعلاقته المتفاوتة بكل ذلك بين الاندماج والمواربة والتفادي.
كما استعرض حياة المدرسين العرب والأجانب الذين كانوا يشكلون ظاهرة اجتماعية لافتة في بيئة صحراوية محافظة.
اتسعت سرديته ايضاً لإيجاز كافٍ عن طبيعة وواقع السياسة العربية في النصف الأخير من عقد الستينيات اتسم بوعي عميق ونهج محايد لخلفيات ومجريات هذه السياسة. كما لخص حرب يونيو 1967 بأسلوب المحلل السياسي المتخصص بإرهاصاتها ومجرياتها ونتائجها الكارثية عربياً.
واشتملت سرديته أخيراً على قصة إسلامه المتمنّع والمتدرج ورحلته من الشك إلى الإيمان ثم قصة حجه المستعصية نوعاً ما، ومن ثم عودته المتأخرة لرصد التبدلات الجذرية في بيئة لم يجد من ملامحها القديمة إلا القليل.
على أنه نجح في ربط جميع هذه السياقات الروائية بخيط رفيع جعل منها رواية واحدة مشوقة بأزمنتها المتباعدة وتحولاتها الكبرى وشخوصها الذين تقاذفتهم الأمكنة والأزمنة وبقيت ملامحهم صامدة راسخة في معمار النص وحركاته المتتالية.
وتجنباً للإسهاب فإنه يمكن إيجاز انطباعاتٍ عجلى في النقاط التالية:
- رغم تصريحه بأنه يكتب من الذاكرة بعد مرور أربعة عقود، عدا ما وثّقه في خطاباته لأهله، إلا أنه يكتب بتفصيل مدهش وينقل صوراً حية لا تتأتّى إلا لمن سكنت تلك المرحلة البعيدة روحه ووجدانه
وقد جاء اختياره لعنوان الكتاب معبراً ومنتمياً لزمن الحقبة التي يحكي حكايتها، حيث كان يتم اعتماد التوقيت الغروبي بدلاً من التوقيت الزوالي الحالي، وكان لغرابة العنوان دور في جذب القارئ لاكتشاف هذه الأحجية.
- نجح في التقاط شخصيات روائية من زملائه وأفراد المجتمع جعلت كتابه أكثر من كتاب مذكرات وأضفت عليه جواً تشويقياً جاذباً، وإن لم يفقد صفة التوثيق.
- يكشف الكتاب أن الكاتب ليس مجرد معلم لغة بقدر ما هو مزيج من الرحّالة والمستشرق والأديب والمثقف السياسي وأشياء أخرى ربما ويكفي الإشارة إلى الفصل السابع عن (داوتي، فيلبي وآخرون) وعلى الأخص تناوله الدقيق لتراث ولغة داوتي وكذلك لمحاته الموجزة عن السياسة العربية وهزيمة يونيو.
كما أنه لم يكن مجرد طالب وظيفة تعليمية فقد درس اللغة العربية في أوكسفورد والإسكندرية وجاء يحدوه موقع الوظيفة لا نوعها.
- لقد كان من الكياسة والأدب بحيث استعرض معظم المواقف الخلافية، والعدائية أحياناً، تجاهه بطريقة عقلانية بعيداً عن المشاعر السلبية أو استقصاء النوايا وكان في الغالب يضع نفسه موضع الآخر وينتهي باستنتاجات إيجابية. وحتى عندما تضافرت جهود كثيرين لإبعاده عن عنيزة بتهمٍ بعضها معلن وبعضها الآخر مضمر فإنه بذل جهداً واضحاً وذكياً لجعل تبعة إبعاده تقع على أشخاصٍ ليسوا من أهل البلدة مما يعني حرصه الشديد على أن تبقي صورة البلدة وأهلها في ذهنه ووجدانه نقية مشرقة.
- عبدالرحمن الصالح