د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يعوِّل المجتمع على مثقفيه، ويفتخر بهم، ويعتمد عليهم في التطور الفكري والثقافي، ويتطلَّع إلى الإفادة منهم في كثيرٍ من المجالات، ويأمل منهم أن يسهموا بثقافتهم وفكرهم في الارتقاء بالوطن، والإسهام بكل ما يؤدي إلى تقدُّمه الفكري والحضاري.
غير أنَّ الإشكالية التي يقع فيها كثيرٌ من مثقفينا -وليس البعض القليل- تتمثَّل في تلك الأوهام التي تذهب به بعيداً عن واقع علمه، والخيالات التي تحلِّق به خارج حدود ثقافته، فيظن أنه -بهذه الثقافة- أصبح يعرف كلَّ شيء، ويتوهَّم أنَّ هذه البضاعة المزجاة من العلم تسمح له أن يتحدَّث في أيِّ أمر، وإذا بلغ المثقَّف هذه المرحلة جاء بالعجائب، وأتى بالمضحكات المبكيات.
وأعتقد أنَّ مِن أهم الأسباب التي جعلت كثيراً من المثقفين يصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من الطغيان العلمي: جهل المجتمع وعاميَّة كثيرٍ من أفراده، الذين تفرَّغوا للتطبيل لكلِّ ما يقوله صاحبهم، وتخصَّصوا بالتصفيق لجميع ما يهذي به كبيرهم، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويُردُّ في المجتمع إلا هذا المثقف، إذ هو العالم الذي لا يُشقُّ له غبار، وهو المتخصص المتفنِّن النادر الشيخ العلامة الذي لا ينطق عن الهوى، وكيف يُشكُّ في خطأ ما يقول وهو الأديب الكبير صاحب الدروس والمقالات التي أطبقتْ شهرتها الآفاق؟ وكيف يُجادَلُ في قضيةٍ أدلى برأيه فيها وهو المثقف القدير مصنِّف الكتب المؤلفات التي ملأتْ الدنيا وشغلتْ الناس؟
إنَّ من أبرز الأسباب التي تجعل المجتمع يقع في مثل هذه المآزق دون أن يشعر: العاطفيَّة الزائدة، والاندفاع غير الواعي، والمبالغة في التقديس والتبجيل، والجهل الواسع وضعف الثقة بالنفس، وهي أمورٌ تؤدي إلى حبِّ التبعية، والرغبة في صنع الرموز واتخاذ الكبراء، مما يسهم في النهاية في تعزيز جهل المجتمع، واستمرار ضعفه، واستحالة تحوله عن ضلاله القديم.
يقابل هذا تلك الفطرة الإنسانية في صاحبنا المثقف، والغريزة البشرية التي تحبُّ الظهور، وتعشق التميز، وتهيم بالشهرة والتفرُّد، مما يؤدي إلى انجرافه وراء هذا التطبيل، والركض خلف ذلك التصفيق، فيقع في مأزق العُجْب بالنفس، ويسقط في فخِّ تصديق الأوهام، فيتجرأ على كلِّ التخصصات، ويستمرئ التعليق على جميع القضايا، وكلما زاد التابعون زاد الكلام، وكلما كثر (الرتويت) والإعجاب زادتْ الجرأة وكبر الوهم وتضخَّمتْ الكذبة، ولا يزال المجتمع يُشْدَه بهذا المخلوق، ويُعجَب بطرحه ورؤيته حتى يتخذه الأنموذج والرمز والمثال الذي بخل الزمان أن يجود بمثله.
وأذكر أنَّ أحد الأصحاب النابهين عرض عليَّ مقالاً مفصَّلاً ينتقد فيه مثقفاً من هؤلاء، إذ لاحظ أنه بدأ ينحرف عن تخصصه، ويتطفَّل على تخصصات لا ناقة له فيها ولا جمل، وكان صاحبي يبدي استغرابه، ويُظهر تعجبه من جرأة هذا المثقف على تجاوز حدود علمه وسور تخصصه، فأخبرته أننا نحن مَن جعله يستمرئ هذا الفعل حين أعطيناه أكبر من حجمه، وبالغنا في النظر إليه نظرة إكبار وإجلال في كلِّ ما يقول، ولو لم نفعل ذلك لما كانتْ عنده تلك الجرأة، ولعرف قدر نفسه وحدود إمكانياته وحجم ثقافته، ولما تعجبنا من جرأته، ولا استغربنا من تطفله وتجاوزه.
إنني حين أعرض هذه القضية لا أقصد التقليل من شأن المثقف، ولا أرمي إلى استنقاص قدره ومكانته، كيف هذا وقد أوضحتُ في البداية أنَّ المجتمع يعوِّل عليه ويفتخر به، وإنما أدعوه إلى أن يحفظ منزلته باحترام قدراته، وأن يعرف قدر نفسه ومبلغه من العلم، وأن يحفظ لسانه و(أصابعه) من الخوض فيما لا يحسنه، وأن يعي جيداً أنَّ كونه مثقفاً لا يعني أنه يتقن الحديث في كل فنّ، ويجيد التعمُّق في كلِّ تخصص، ثم إني أربأ به أن ينجرف وراء التصفيق، أو أن يغترَّ بكثرة التابعين الذين لم يفهموا معنى أن يكون الإنسان مثقفا، وتوهموا أنَّ ثقافته تتيح له الكلام في أيِّ موضوع، وأنه لا ينطق إلا صواباً وحكمة.
إنَّ على المثقفين -خاصَّةً الكبار منهم- أن يراجعوا أنفسهم، وأن يفكروا ألف مرة في الكلام قبل أن يخرج من رؤوسهم، وأن يحترموا العلم والتخصص، وأن يدركوا أنه ليس مطلوباً منهم أبداً أن يكون لهم رأيٌ في كلِّ قضية، وأن يعوا أنهم يسيؤون إلى الثقافة قبل سمعتهم حين يظنون أنهم يعرفون كل شيء، فيتحدثون خارج حدود علمهم، ويتطفلون على موائد الآخرين، وأن يبادروا بالاعتذار فوراً حين تزلُّ بهم القدم في هذه الإشكالية، فهم بهذا يعيدون إلى الثقافة جمالها، وإلى المثقف هيبته، وإلى أفراد المجتمع النابهين تقدير الثقافة واحترام المثقفين.