د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وحين تكون العصبية هي الآلية التي يتم عن طريقها نشر المنهج، فإن هذا يعني أن الجماعة/القوم هي الأساس، وليس المبدأ الذي يميز الحق من الباطل، لأن الولاء للجماعة من خلال «العصبية» هو مدار الأمر في قبول الشخص ورفضه، ويأتي المبدأ ثانيا، فحين ينفصل المبدأ عن الولاء، فيكون الشخص مؤمنا بالمبدأ ولا يؤمن بالولاء إلى الجماعة، فإنه يكون مرفوضا داخل الجماعة/القوم بناء على أن «المبدأ هو إن لم تكن معي فأنت ضدي»، وهذا ما يسبب الانشقاقات الكثيرة في أوساط هذه الجماعات بناء على قضية «الولاء»، ويخرم في الوقت نفسه القضية التي قامت من أجلها، والمنهج الذي اتخذته وسيلة لبنائها.
وحين يتحول الولاء من «المبدأ» و»القضية» إلى الجماعة تصبح مقولة «أنت معنا، أو معهم» لا تعني شيئا على مستوى المنهج، والفكرة أو القضية، لأنها متساوية بناء على أن الحديث عن جماعة وليس عن مبدأ أو فكرة، أو منهج، لأن الخلاف هنا قائم على الجماعة ليس غير، وحين يكون الخلاف على الولاء بالدرجة الأولى، فهو خلاف سياسي شخصي، وتكون الحلول الفكرية، والمعالجة العلمية في الحقيقة ليست كذلك، ولكنها وجه من وجوه المعالجة الأمنية، إذ تقضي بأن المواجهة ليست مواجهة أفكار، أو مفاهيم، وإنما مواجهة بين الأشخاص الذين لا يدينون بولائهم لزعيم الجماعة، وهو ما يعني أنه عندما يتغير الولاء بغض النظر عن الأفكار، فإن الحال لا يتغير. الأمر الذي يفتح المجال لتغير الوجوه والأسماء دون تغير الحقائق، فهي صورة من المواجهة بين المجموعات على الزعامة، وحين يكون ذلك كذلك فإن هذا يعني ازدهار المقولات الفكرية، وانتشارها بناء على اختلاف قياداتها، وتنوع الداعمين لها، ويعطيها زخما وحضورا. كما أن هذا التنافس قد يكسب مشروعيته من القرب للمبدأ الذي يعلنه الفرقاء جميعا مما يكون وسيلة للتطرف.
وهي علاقة سياسية تخضع لكل ما تخضع له العملية السياسة من مواضعات، فيدخل فيها، حلول الوسط، وكما يدخل فيها الصفقات بين الأطراف التي تعني تقديم تنازلت للخصوم، وتحيل المسائل الدينية إلى قضايا سياسية أيضا تتجزأ كما تتجزأ القطعة من الكعك.
وهذا الفصل بين الولاء، والمبدأ يوصلنا إلى مسألة أخرى، وهي النظر في مكونات الجماعات، سواء كانت الآلية أو الرؤية، منفصلة عنها، فحين تنتفي الجماعة، وتبقى الآليات المتبعة لديها، وهي «توسيع دائرة التحريم»، و»العصبية»، فإن الآليات لا تتغير، والموقف لا يتغير، بمعنى أن أثر هذه الآليات، وما تحدثه في المجتمع لا يتغير بناء على أنها كانت وسيلة لتحقيق غاية معينة في ظل إطار معين، فإذا ذهب الإطار/الجماعة، واستمرت الآلية فإن هذا يعني أن هيكل الجماعات باق من جهة، وأن أثره المؤدي إلى التطرف أو الشقاق الاجتماعي باق أيضا.
وهذا القول يتكرر حين نتحدث عن فكر الجماعة خارج إطارها، فالإيمان بأن الإسلام يحمل تفصيلا لكل مناحي الحياة، وأن جميع مناشطها صغيرها وكبيرها ينبغي أن تنتظم في إطار فلسفي واحد يربطها بالإسلام، ويجعل الخارج عنها خارجا عنه، كما أن تصور أن آلية «الحرام والحلال» الفقهية قادرة على مواجهة جميع ظروف المجتمع، وأحواله، وأنه من الممكن استعمال المنظومة الفقهية في التعاطي مسائل الحياة المختلفة يعني تكرار مقولات التطرف، وتطبيقها عمليا دون إطارها السياسي، وهذا يكرس الوعي الفكري لتلك الجماعات، ويجعل المجتمعات تسير دون وعي منها على خطاها، وتكون جاهزة لإعادة تكوينها، وتنظيم نفسها مرة أخرى.
فالجماعة ذات كيان سياسي بما تمثله من استقلال، وبناء تراتبي، ونظام يحكمها من داخلها، يمكنها من اتخاذ مواقف ذات تأثير اجتماعي/سياسي، وحين تهدد هذه الجماعات الأمن، وتتعارض مع التكوينات السياسية الأخرى، فإن القضاء على هذه التهديدات يمثل قضاء أمنيا، في حين إزالة الجماعات بوصفها تكونات كاملة كما سبق وصفها، يعني إبعادها عن الحضور السياسي، إلا أن هذا لا يعني بحال زوال أفكارها، ولا آلياتها التي هي المادة الأصلية لبناء التطرف وصناعته، ومحاول تفريغ هذه الجماعات من قيمتها من خلال استعارة آلياتها، وأفكارها تحت أسماء جديدة، وشعارات أخرى هو لون من إعادة إنتاج التطرف، وصناعاته تحت مصانع جديدة، والأخطر هو عندما تكون هذه المصانع لا تعلم بعاقبة عملها.