د. حسن بن فهد الهويمل
لقد آلم نفسي، وعَمَّق سُقْمها، وأنكى جراحها مقال [أبي بشار]: [عالم مَرِيْضٌ. فَمَتَى يَتَعَافَى؟]، [الجزيرة 4-7-1438هـ].
وكيف لا تؤوِّبُ مع تأوهاته جبال الوطن العربي، وطيوره، وحملة هم الأمة، ممن عايشوا انتكاساتها على يد العققة من أبنائها، والذين يؤزونهم من دول الاستكبار.
لقد أوذِيْتُ، وأنا أردد، مصطلحات [الغزو]، و[التآمر] و[اللاعب]، و[الملعوب عليه].
أوجَفَ بالإيذاء المستغربون، ومن شايعهم، ممن يظنون بالإسلام. ظن السوء، ويُحَمِّلونه جرائر التخلّف. وتوالي الانتكاسات.
والإسلام إما أن يكون حاضرًا مع وقف التنفيذ. أو حاضرًا بتزييف الطوائف، والأحزاب، وشعارات الزيف، والتغرير.
وبكائية [أبي بشار] تنبعث من تحت ركام المشاكل، والأزمات المستحكمة.
وكيف تبدو بوارق الأمل، وسمات البعض منا: المرض، والتوحش، و[اللا إنسانية]، و[اللا عقلانية]: [وهكذا هو عالمنا، وبمثل هذا يكون البؤس، والضياع، والحياة غير المستقرة].
[تمضي بنا الحال هكذا، مؤامرات وراء مؤامرات، وأطماع إثر أطماع، وعداوات على الهوية: القومية، أو الدينيَّة].
بهذه المقتطفات يجمجم الكاتب الخبير عمَّا في أنفس المغلوبين على أمرهم. وما يقوله، يستبطنه الواعون المدركون لخفايا الأمور، ثم يفيض به المصدور بين الحين والآخر. و[لابُدَّ لِلْمَصْدُوِر مِنْ فَيَضَانِ].
فأين الذين لا تأخذهم بالحق لومة لائم من قادة الفكر الحصيف، وحملة الأقلام الواعية؟ عسى أن يُلْقوا لتلك التأوهات بالًا.
لقد سقطت الأقنعة، وتعرّت السوءآت، وبان الزيف. ولا مجال - والحالة تلك - للتورية، ولا للتلميح، ولا للقول على استحياء. لابد من المكاشفة، ومواجهة المخطئ بخطئه.
دعونا من كلمات التمريض، والتمويه، والمداراة، والمداهنة. لقد بلغ السيل الزُّبَى. وهَمَّ بمصالحنا، ومصائرنا من لا يراعي فينا إلًّا، ولا ذمة.
عالمنا يتآكل كما لو كان قالب ثلج تحت وهج الشمس، وذووه من حوله يشهدون تبخره. وهم في درك هوانهم، وضعفهم، وقِلَّة حيلتهم. لا يستدركون بالمستطاع من الفعل، ولايستصرخون بالمقدور عليه من القول.
كثير من الكتبة يجهلون، أو يتجاهلون مكامن الداء، ومصادر الغواية. ولو أنهم عَمَّقُوا الرؤية، واستخدموا المِجَسَّات، والمسابير لعرفوا أين تكمن عوائقهم. فالطلقات العشوائية لا تصيب الأهداف.
أمتنا [عربية] [مسلمة]. ومن أرادها على غير هذه الثنائية فقد عمق فيها عوامل الفرقة.
[العراق] - على سبيل المثال - عربي مسلم، لا يمكن أن يُوَطِّئَ أكنافَه للفرس الروافض. وهو قد دفع أغلى الأثمان في سبيل الحفاظ على عروبته، منذ النشأة الأولى.
جاء ذلك حين حاول [أبو مسلم الخراساني] المحاصصة، بعد سقوط الدولة الأموية. بحيث يكون للفرس موطئ قدم في سدة الحكم العربي المسلم.
ولما طويت صفحته، بدأ [البرامكة] يلملمون شتاتهم، وأصبحوا بعلمهم، وكرمهم، وحسن إدارتهم للعامة يستميلون الرأي العام.
ولما أحس [الرشيد] بالتهميش، وتضييق الخناق عليه. جاءت [نكبة البرامكة] لتنهي الفكرة الخرسانية.
وحين عادت المحاولة للمرة الثالثة، استعان الخليفة [المعتصم] بالعنصر [التركي] لتفكيك التكتل [الفارسي]. ولكن الحكم [العباسي] ضاع تحت سنابك الصراعات القومية.
والتاريخ يعيد نفسه، فالعنصر [الفارسي] يمارس الدور نفسه على أرض [العراق]، بمواطأة من الأذلاء من أبنائه. ولكنه يواجه بقوميتين:- [عربية]، و[كردية] وعقيدة سلفية.
ودول الاستكبار ترعى هذه الأزمات، ولاتحسمها. و[العلمانيون] العمي، و[الليبراليون] الصم، و[شيعة العرب] البكم، يستغلون هذه الظروف العصيبة، ظنًا منهم أنها ستوفر لهم، ولو [مفحص قطاة] في المشهد السياسي. ومادروا أنهم يَفُتُّون في عضد أمتهم، ثم لا ينالون خيرا.
هذه الظواهر غير السوية عوارض المرض الذي تأوه منه الكاتب الخبير. وحَكَم بمرض أمته، وتلمس لها سبل النجاة.
وليس ببعيد أن تصحوا الأمة، وتعي أدواءها، وتذعن لأطبائها الذين يعرفون دواخل اللعب، وأسباب الفتن.
إنَّ تساؤل الكاتب الخبير:- [متى يتعافى عالمنا من مرضه، متى؟!] في محله.
إذ ربما يكون النصر قريبًا. فكم من متسائل يتحرّق قلبه ويردد: -
- {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟}
والرد المتفائل: - {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
لو ترك عالمنا العربي وشأنه، لوجد الفرصة مواتية للخلوص من هذه الفوضى الهدامة، التي فُرضت عليه، وجُنِّدَ لَها عدو تاريخي، يحمل أحقاده، منذ أن سقط عَرْشُ الأكاسرة تحت أقدام المجاهدين. ومايحاك لأمتنا مؤشر [لعب كبرى]، لا تُبْقِي، ولا تذر.
لقد فتح [نابليون] كوة جاءتنا منها ريح عاصف، فلم نستطع إغلاقها، ولا النفاذ منها إلى دقائق المدنية الغربية، مثلما فعل [اليابانيون].
كما أقَرَّ وزيرا خارجية [فرنسا]، و[بريطانيا] واقع التمزيق الإقليمي، في أقذر اتفاقية عرفها التاريخ المعاصر. فأصبحت واقعًا لا محيد عنه، صُنِّمت فيه الحدود، وضخمت فيه القُطْريَّةُ.
وتتابعت الانقلابات العسكرية، ليتحول الحكم من المؤسسات المدنية الرحيمة إلى الثكنات، والدبابات العسكرية العنيفة.
وغُرِسَت دولةٌ [عبرية يهودية] لتمزّق العروبتين: الآسيوية، والإفريقية، والرجوع بأي تحرك وحدوي قومي إلى مربعاته الأولى .
وجاءت [نكسة حزيران] لتنهي إلى الأبد المواجهات العسكرية مع العدو الإسرائيلي. إذ ختمت المواجهات بتعويذة [كامب ديفيد].
والطامة الكبرى حرب [العراق] و[إيران]. و[العراق]، و[الكويت]. وما خلفته من خريف عربي سمي تفاؤلًا بالربيع.
إن أمتنا بحق تمثّل المجتمع المريض، وبوادر المرض لا ينبئ عن سلامة قريبة المنال.
{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
فلم يبق إلا نصر الله، فهو القريب المجيب {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
إننا بحاجة إلى أقلام تنكأ الجراح، لِتُخْرِجَ أضغانها، ولا تدعها تَرِمُّ على فساد. أمتنا مريضة، وعافيتها بيد أبنائها.
والمواجهة العسكرية ليست الحل الأفضل. إن بإمكان أمتنا أن تتحامل على نفسها، وترفع سائر ملفاتها، وتلتقي على مبدأ المشاركة، والتعاذر، والتعايش.
لقد دُمِّرت [اليابان] حين كان خيارها الحرب. وانتصرت حين جنحت إلى السلام، وارتدت إلى الداخل، وتركت صناعة السلاح إلى صناعة الحياة.
إنها اليوم سيدة الموقف، لأنها تصنع أمجادها بسواعد أبنائها، ومهارتهم، وأناملهم.
لقد ارتدت إلى الداخل، وأتاحت للأقوياء الاطمئنان على مصالحهم، وعلى مناطق نفوذهم.
فهلا نكون عقلاء ونتعظ بغيرنا؟!!