- قد يكون من أكثر مواضع الكتاب إثارة وطرافة موضوع إسلام السيد جيمس ابتداءً من الحصار الدعوي الذي لاحقه، وإن بأدب، في عنيزة من قِبل كثيرين وانتهاءً بالحيرة الفكرية التي أوصلته إلى حالة نفسية متردية.
ورغم أنه تعامل مع هذا الموضوع الروحي بطريقة عقلانية لا تنفصل عن تركيبته الإنجليزية التي هي مزيج من التربية الأنجليكانية الجادة والفكر الوضعي السائد ببريطانياً والاستقلالية الإنجليزية المعهودة، إلا أن المدقق في روايته يلحظ منزعاً رومانسياً نادراً في شخصيته يرتبط أساساً بعلاقته بعنيزة وأهلها والزمن الفريد الذي عاشه هناك والذي لم يتردد أن يقول عنه مثلاً: (وجدت نفسي مقتلعاً من الجذور بشكلٍ مفاجئ بعد أن قضيت أربع سنوات ونصف في مكان كنت أعتبره مثل بلدي) أو قوله: (بالرغم من أن نقلي المفاجئ كان نوعاً من الصدمة) وقال في موضعٍ آخر: (حينما وصلت إلى هنا في عام 1965م تعجبت أنني ألزمت نفسي بالمجئ إلى هنا لكن بدأ ينمو حبي له ولا أعتقد أنني أتحمل في يومٍ من الأيام مغادرته).
على أن هذا العشق لمزيج المكان وأهله ودوره في خلق جذوةٍ رومانسية دفينة في شخصية تتسم بعقلانية مفرطة لم يكن المحفز الوحيد لمحاولة اعتناق دين هذه البيئة. فقد وجد تعاملاً راقياً مع ما كان يتظاهر به من دينٍ مختلف ابتداءً من حواراته الجدية مع زميله المرحوم محمد العمير مدرس العربي ثم مواقفه مع المرحوم الشيخ محمد العثيمين الذي يئس منه ولم يتعرض له بسوء ثم نبوءة وكيل الثانوية المرحوم الشاعر أبي سامي الذي قال له وهو يودعه مغادراً: (لديّ إحساس بأنك سوف تصبح مسلماً في يومٍ من الأيام، ربما لا تصدقني الآن، لكني أدرك بأنك أقرب للإسلام الآن أكثر مما تظن).
وإذا كان قد جاء في الأثر أن: (الدين المعاملة) فإن استعادته الذهنية والشعورية فيما بعد لهذه الأجواء ولهذه المواقف، حسب تصريحه في أكثر من موضع، ربما كان لها الدور الحاسم في اعتناقه الإسلام أكثر من تحليله العقلاني البحت للتحول من اللا أدريّة إلى الدين.
وحتى عندما عزم على الحج ورغم مجيئه عبر وكالة سفرٍ عمانية ،حيث يقيم، فإنه التحق بحملة حج محلية برفقة بعض تلاميذه القدامى في عنيزة.
لقد كان ميله للإسلام مختبئاً أو مندغماً في ذاكرته المفعمة مع ذلك الزمن الأثير الذي حمله معه ولم تزده الأيام إلا توهجاً في عقله ووجدانه أو هكذا يبدو لمن يستقرئ ما بين السطور.
- ربما كان لرغبته القوية بإتقان اللغة العربية دور كبير في حرصه على المجئ لمهد هذه اللغة، وهو ما تحقق بالفعل، حيث أصبح فيما بعد يترجم باقتدار من العربية إلى الإنجليزية. ولكن المبهر حقاً هو اتقانه للهجة العامية، حيث أصبح يتحدثها كأهلها، حسب شهادة القريبين منه.والذي يطّلع على مسرد المصطلحات Glossary الملحق بالطبعة الإنجليزية من كتابه يتضح له مدى صحة نطقه وفهمه لتلك الكلمات العامية.
- أخيراً فإن هذا الكتاب يمكن اعتباره البديل الرمزي المزدوج لجانبي التجربة. فهو من ناحية بديلٌ لذلك الزمن المفقود بشخوصه وبيئته وأحداثه ومجريات حياته المتوارية باعتبار هذا البديل يمثل إشباعاً تعويضياً لما افتقده الكاتب بصورة نهائية.
ومن ناحية أخري فربما أراد الكاتب أن يترك بديلاً أليفاً لشخصه بين أيدي أصدقائه ومعارفه ،ولأجيالٍ قادمة، في بلدةٍ كان يأمل ألاّ يفارقها وأن يكون جزءاً من نسيجها الزمني والمكاني ، ولعله نجح في صياغة كلا البديلين.
- كان بإمكان الكاتب أن يكتب ضعف حجم الكتاب أو أكثر ومن المؤكد أن لديه تفاصيل كثيرة وهناك أشخاص عديدون في كتابه ارتبط معهم بعمق وحميمية يستطيع الكتابة عن علاقته معهم بإسهاب لكنه ربما فضّل الاكتفاء بإشارات سريعةٍ موحية. ولا يعجز من عاش في تلك البيئة أو بيئة مماثلة أن يقرأ الكثير بين السطور. بالإضافة إلى أنه اعتمد منذ البداية ما يشبه النهج الروائي الذي لا يحتمل حشداً معلوماتياً مكثفاً.
- صدر كتاب السيد جيمس بالإنجليزية بنفس العنوان عام 2014 في لندن بعد أربع سنوات من عودته المتأخرة لعنيزة. وصدر بالعربية عام 2017 من بيروت حيث قام بترجمته ابن عنيزة الدكتور جاسر عبدالرحمن الجاسر الذي لم يسبق له التعرف على السيد جيمس ولا التتلمذ عليه ولكنه بسبب فهمه للبيئة المحلية ومعرفته الكافية بمعظم مفردات الكتاب / الرواية من أشخاص وأماكن وعادات وتقاليد فقد استطاع أن يكون المؤلّف الآخر للكتاب. والواقع أنه يشعرك بأنه لا ينقل من لغة إلى لغة بقدر ما ينطق بلسان الكاتب وكأنه يتفقد أماكن خبِرها وأناساً عاشرهم أو هو في الحقيقة يبذل ذات الجهد وبنفس الشغف لاستعادة الزمن الجميل المفقود.
لا أزال أذكر من طفولتي في عنيزة طيف السيد جيمس مع كوكبة من كبار تلاميذه وهم يذرعون الطرقات المحاذية لبيتنا عائدين في ساعات العتمة المبكرة من التمشية المسائية. كنت أراه بقده النحيل وثوبه وطاقيته النظيفتين ووجهه المشرق، منغمساً في الحديث ومتماهياً مع كل ما يحيط به من جدران طينية وأرضٍ ترابية وظلمة حالمة وسكون مبكرٍ لحياة البلدة، وكأنه يعلن بطريقة عفوية انتماءه النهائي لهذه البلدة وأهلها. فإن كان قد تركها مرغماً قبل حوالي خمسة عقود فإنه حتماً سكن ذاكرتها وهو بهذا الكتاب أسهم في إثراء هذه الذاكرة، أما هي فقد سكنته وتغلغلت في ذاته،أو هكذا يتراءى لمن يأخذ روايته مأخذ الجد.
- عبدالرحمن الصالح