هل يجوز تسمية الخطاب يمينياً أو يسارياً؟ ... الجواب نعم، فيمكن لأي جهة أن تقدم نفسها على أنها يسارية، ولكن يبقى الخطاب مجرداً حتى يتم إثباته بالممارسة في الواقع المعاش.
وموضوع الخطاب هنا لا يخص الجهات التي تدعي اليسارية ثم تنتهج ممارسات يمينية أو العكس، إنما الأخطاء في خطاب الجهات التي كانت ولازالت تنتهج نهجاً يسارياً أو تحاول ذلك.
الخطاب السياسي يشمل التسمية والبرنامج والشعارات (البوصلية) لكل مرحلة، وهو العنوان الذي يتجسد من خلاله مضمون هذه الجهة أو تلك. وتأتي أهمية الخطاب من حيث تأثيره المباشر على المضمون. فالخطاب ليس مجرد قشرة للمضمون، إنما الخطاب والمضمون في وحدة واحدة لا تنفصم وتفاعل مستمر يستدعي إنتاج وإعادة إنتاج الخطاب والمضمون تبعاً لمتطلبات الصراع. تجاهل هذه الحقيقة أدى الى الإخلال بالمنهج اليساري وتفككه فيما بعد.
استطاع الاستعمار من خلال أدواته داخل النهج اليساري تقسيم اليسار وتفتيته وخلق عدوانية فتنويه بين أطرافه، وذلك بسبب الثغرة التي أحدثها اليسار في حركته بإهمال العلاقة العضوية (الديالكتيكية) بين الشكل والمضمون. كما ساهمت الستالينية في المنهج اليساري على تكريس هذا الخلل وغيره بتغليب المركزية على الديمقراطية داخله.
لا توجد المساحة الكافية لتسليط الضوء على الخلل في المنهج اليساري العالمي، ولكن يمكن تناول بعض الشواهد في المنهج اليساري العربي، وهي كما يلي:
اولاً- التسميات: الأداة الأبرز للرأسمال لتثبيت هيمنته وتواجده في الوطن العربي هو الاضطهاد القومي بواسطة الكيان الإسرائيلي، وكان ولازال المنهج اليساري كله في الوطن العربي يعتبر مواجهة الاضطهاد القومي أولويةً للخلاص من الهيمنة الاستعمارية. وبغض النظر عن الصراع الذي كان دامياً أحياناً بين من يسمي نفسه قومياً وبين من يعتبر نفسه أممياً أو غير ذلك -بالرغم من أهمية هذا الموضوع- ولكن: هل كان الاضطهاد الاستعماري القومي في الوطن العربي موجهاً ضد الغالبية العربية وحدها أم ضد القوميات كلها في هذا الوطن؟
وإذا كان موجهاً ضد الجميع ألا يجدر بأن التسمية لهذه الجهة او تلك تكون حاضنة لكل المضطهدين بما فيهم ذوي الأصول غير العربية؟ ماذا لو كانت تسمية حزب البعث مثلاً حزب البعث الوطني التقدمي كي يسمح لجميع القوميات أو الشرفاء ذوي الأصول غير العربية بالانخراط فيه؟ ألا تسحب مثل هذه التسمية البساط من تحت عملاء الاستعمار الذين روجوا الى أن الأحزاب القومية هي شوفينية في جوهرها؟
ثانياً- البرامج: حرص المنهج اليساري على وضع برامج الحد الأدنى والحد الأقصى، ولكن الممارسة العملية كرست برنامج الحد الأقصى كأولوية، وأصبح المنهج اليساري مرهوناً بالقرار الأممي الذي يمليه الحزب الستاليني. والنتيجة المرّة كالعلقم أن النهج اليساري بالوطن العربي، الذي ارتهن للستالينية قَبِلَ بـ(سايكس-بيكو) بحجة تحاشي حرباً عالميةً ثالثة قد تؤدي إلى تدمير العالم، بينما كان موقف الاتحاد السوفييتي اللينيني بعد الثورة هو فضح تلك المعاهدة والعمل ضدها.
من المفترض أن المنهج اليساري الموضوعي يضع برنامج يأخذ بالاعتبار معطيات الصراع القائم ومستوى الوعي المحلي والظروف الإقليمية والدولية لتكون تضحياته ذات جدوى، وليس التسابق ليكون البرنامج مسايراً لما تريده الستالينية.
ثالثاً- الشعارات: قد يبدو للوهلة الأولى أن الشعار هو جزء ثانوي من الشكل ولا يضر بالمضمون، ولكن عندما تضع شعار مثل لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!، فهذا ليس حرصاً على المعركة! فهل للمعركة صوت واحد؟ أليست عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والفنية والتعليمية والسياسية من ضمن تلك المعركة؟ كما أن هذا الشعار يمنحك الحق المطلق لتصنيف أي عمل أو تيار أو شخص بأنّ صوته يتماشى مع المعركة أم لا، وبالتالي تكون سيفا مسلطاً ضد كل الروافد للمنهج اليساري، سواءً كانت مطالبات اقتصادية او بيئية او دينية او تعليمية او إصلاحية او غير ذلك.
المنهج مطالب الآن في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة، بإعادة انتاج خطابه بما يتلائم مع مضمونه، ويكون الخطاب حاضنة للنهوض الجماهيري الجديد الذي يعيشه الوطن العربي، ويتخلى عن التبعية واللهث وراء أوهام لا تمت بصلة للواقع الموضوعي، كالتضامن العربي والجامعة العربية المشؤومة وكل الأسمال البالية التي قيدت نشاطه في الحقبة الستالينية الماضية.
- د.عادل العلي