ناصر الصِرامي
رحلة زمنية صحفية أو تقنية عبر المهنة، بين الإعلام والتقنية.. تظهر للمتابع العادي كيف تغيرت وتبدلت كل الأشياء اليوم، كل الصور للإعلام التقليدي تتلاشى بسرعة رهيبة وبتحولات ضخمة في عمق الوسائل والممارسات، وبالتالي في الأهم، في اقتصاديات الإعلام.
كتبت أول خبر قبل نحو عشرين عاماً من الآن، كانت الكتابة باليد هي وسيلتنا المتاحة، لم يكن إلا القلم وأوراق تقص مما تبقى من «رولات» الطباعة الضخمة للتحول إلى أوراق رخيصة للكتابة.. ووضع العنوان بورقة عرضية، قبل ان ترسل لغرفة الأخبار التي تقرر النشر من عدمه، قبل ان يحملها المراسل إلى قسم «الصف»، ثم التصحيح، ثم تعود لغرفة الأخبار للمراجعة، ثم ترسل لعمليات طباعة معقدة، حيث رائحة الأحبار تعم المكان، كانت تلك تشكل البدائية في عملنا الصحفي حينها!
من تلك اللحظة الأولى في مهنة الصحافة إلى اليوم وفي أقل من عقدين كل شيء تغير، انقلب الإعلام بشكل ثوري متجدد باستمرار وصولا للحظة الآن بكل ابهارها التقني والمعلوماتي.
في ذلك الوقت كانت المؤسسات الصحفية تبدأ عصرها الذهبي بالمعايير الاقتصادية، كان التوهج والريادة مطلقة لعقدين. وهو العمر الذهبي للمؤسسات الصحفية التي بنت مقاراتها الكبيرة ومبانيها الفرعية في المناطق الرئيسية، واستوردت أحدث مكائن الطباعة، والتهمت ملايين أطنان من الأوراق، مقابل دخل إعلاني كبير.
لكن مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي، انطلقت التحديات المهنية والتقنية بكل أشكالها، من البث الفضائي إلى الانترنت و النشر والتفاعل الالكتروني، وصولا إلى تطبيقات التواصل والإعلام الاجتماعي بكل أشكالها!.
لتصبح مبانيها ومطابعها تشكل اليوم عبئاً إضافياً أمام تقلص مستمر في مداخيلها الإعلانية، بسبب غياب بعضها حتى تاريخه عن الوعي بحجم التحولات الحالية والمنتظرة.
من صحافة اجتهاد الأفراد إلى المؤسسات، من صحافة فردية تبخرت لأنها لم تتحول لمؤسسات راسخة في الوقت المناسب، إلى مؤسسات تعاني اليوم من تحديات وهجمات رقمية يبدو التحول متشابها والتصفية ذاتها وان اختلفت الثورة وبعض التفاصيل.
قد تكون وسائل التواصل والإعلام الاجتماعي ساهمت في جذب مزيد من المتابعين، وخاصة من الجيل البعيد عن المطبوعات باشكالها، عبر تقديم المحتوى المعلوماتي لتلك المطبوعات. أو ان تتحول هذه التطبيقات إلى «ريموتكنترول» موجه للمشاهدين لمتابعة أي قناة أو محطة تلفزيونية. وهو امر جيد، لكنه بالتأكيد لا يكفي!
حيث حضور كل المؤسسات الإعلامية العربية تقريبا أو غالبا، هو «استخدام» وسائل التواصل الاجتماعي، مثل أي مستخدم اخر عادي أو مبتدئي، ومهما تنافست في جمع أرقام المتابعين، وبلغت الملايين فإنها في النهاية لا تملك إلا التباهي بالرقم، بمعنى انها لا تعرف منهم هؤلاء الملايين أعمارهم وجنسياتهم وجنسهم واهتماماتهم أو أي شيء آخر !، وبالتالي لا يمكن لها الاستثمار في هذه الارقام أو تحقيق عوائد مستحقة مهما زادت الاصفار وتضاعف!
ومضاعفة ارقام المتابعين أو حتى شراؤهم أو بأي طريقة كانت لرفع رقم المتابعين والمعجبين، لا تجعل من هذه المؤسسات جزءاً فاعلاً من اقتصاديات الإعلام الاجتماعي. ولن تمنحها حماية أو قدرة على البقاء مع كل هذه التحولات الجارفة!
تبدو اقتصاديات الإعلام الجديد للمؤسسات الإعلامية العربية شبه غائبة تماماً، وبالتالي فإن محاولة البقاء مستقبلا تبقى مهمة مستحيلة، فهي لم تدرك بعد ان هذه الاقتصاديات والاستثمارات هو جهاز تنفسها الجديد..!