د.عبد الرحمن الحبيب
«سامحني يا أبي.. أرجوك، لقد أخطأت!».. هذا ما قاله منفذ العمل الإرهابي بمطار أورلي، حين اتصل بوالده أثناء بداية جُرمه.. لكن ما الذي جعله يعتذر؟ رأينا مراراً إرهابياً شرساً يظهر بالتلفزة وحين تتم مواجهته بمقدار الألم الذي سببه، يتحول لإنسان وديع يبكي.. ما الذي أبكاه؟
قبل هذه الأعمال الإرهابية بقرون، تقول الروايات أن ابن ملجم الذي ضرب بسيف مسموم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بكى ندماً في نهاية حواره معه عندما سأله: «يا هذا، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟!» ما الذي جعله يندم؟ ما الذي غيَّر كل هؤلاء؟
بداية، دعونا نمر بحالة البريطاني خالد مسعود (واسمه السابق أدريان راسيل) حين قام قبل شهر بدهس مارة بسيارة بلندن، مسفراً عن قتل ثلاثة أشخاص وجرح العشرات أحدهن توفيت لاحقاً، ثم اقتحم ساحة البرلمان وطعن شرطيًا حتى الموت قبل أن يُقتل.. ما الذي دفعه لفعلته الشنيعة؟
أوضحت كافة التقارير أنه نفذ عمله منفرداً، دون علاقة بجماعات متشددة، حسبما أكده نيل باسو المنسق الوطني لشرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا. المدير السابق لمدرسة تعليم الإنجليزية التي كان مسعود مدرساً بها، قال إنه: «لم ير ميلاً لديه نحو التشدد حين كان تحت دائرة رصد الاستخبارات عام 2012.. كان بعيدًا عن السياسة أكثر من أي مسلم أعرفه.» بل إن زملاء دراسته ذكروا إنه كان ذكياً ورياضياً ومرِحاً قبل تحوله للعنف (بي بي سي).
نحن أمام إرهابي لا علاقة له بالجماعات المتشددة ولا بالسياسة (رغم تبني داعش لعمله)، لكن شخصيته تجمع تناقضات، فهو رياضي ويتعاطى المخدرات.. يحب المرح ويمارس العنف.. ووصل باسو للخلاصة التالية: «أعلم متى وأين وكيف ارتكب مسعود فظائعه لكن أحتاج لأن أعرف لماذا.. يجب تقبل احتمال أننا لن نفهم أبداً لماذا فعل ذلك. هذا السبب ربما مات معه». هل فعلاً مات السبب معه أم أننا نبحث في الاتجاه الخطأ؟
نحن نبحث في أسئلة خارجية من قبيل: هل هؤلاء مرتبطون بمنظمات إرهابية غسلت أدمغتهم، أم أنهم تعرضوا لظروف اجتماعية وسياسية سيئة.. أسئلة ضرورية لكن ينقصها سؤال آخر مهم عن إرادتهم الداخلية. يذكر تقرير لصحيفة التايمز: «كلما دقق المرء النظر في حياة مسعود متعددة الجوانب، تكاثرت الأسئلة.. كيف استطاع الإرهاب تجنيده.. ومن الذي دفعه لتنفيذ الهجوم..؟»
أسئلة بلا إجابة، لأنها تبحث عن الخارج فقط.. فماذا عن الداخل: ما الذي حركهم من داخل أنفسهم.. من قناعتهم الذاتية وإرادتهم الحرة المستقلة؟ بالنسبة لمسعود فأهم ما قاله المحققون إنه «كان عنيفاً قبل اعتناقه الإسلام وابتعاده عن المشاكل لأكثر من عشر سنوات، ثم تحول للتشدد عبر مواد منشورة على الإنترنت».. فهل هذه المواد غسلت دماغه بهذه البساطة، وهو جامعي وفي الخمسينيات من العمر؟
هذا ما يعارضه تقرير سابق لأتلانتك، مؤكداً أن غسيل الدماغ ليس سبباً للتطرف، بل إن الأفراد الذين ينجذبون لمنظمات إرهابية يعتقدون أنهم يدافعون عما يعتبرونه قضية عادلة، وينضمون لها بمحض إرادتهم.. وأن كثيراً من الجهاديين الغربيين مجندون ذاتيون. ويؤكد التقرير باستنتاجه الأخير أن الإرهاب مفهوم أخلاقي بالمقام الأول، وليس فكرياً، ولا يتعلق بالفشل..
في رواية «صمت الحملان» الذي تحول لفيلم نفساني صادم عن العدوانية البشرية وحصل على عدة جوائز أوسكار، تصدمنا المقولة اللاسببية بواقعية مجردة عن الإرهابيين للطبيب النفسي اللامع: «لا شيء تسبب في وجودهم، إنهم موجودون». أي أنهم بإرادتهم الكاملة وبكينونتهم المستقلة وبدون خداع من أحد، مهيئون للعنف..
هنا، سنطرح فرضية «النفسية الجاهزة للعنف».. شخص سيفعل جرمه على أية حال، منتظراً نداءً خارجياً أياً كان من داعش أو أية منظمة إرهابية ذات إيديولوجيا متطرفة سواء كانت دينية أو دنيوية؛ فكل ما على التنظيم فعله هو احتضان هذه النفسية المتأزمة واستثمار طاقتها التدميرية بتبريرات أخلاقية بأنها ستزيل الكارثة المتمثلة في قوى الشر الحاكمة، وبالتالي تصوير العمليات الانتحارية كاستشهاد عادل..
كيف يمكن دحض هذه المبررات أخلاقياً؟ بكشف مغالطتها عبر مواجهة الإرهابيين بوحشية أعمالهم. لكن كيف؟ عبر الاتصال المباشر بينهم وبين الألم والمعاناة البشرية التي سببوها للضحايا ولأهلهم. هناك أدلة قوية، أوضحتها عدة دراسات، بأن تلك الطريقة نجحت بأماكن العدالة الجنائية التقليدية، وأن المجرمين الذين يواجهون ضحاياهم هم أقل عرضة لارتكاب خطأ آخر. وربما تنجح هذه الطريقة مع الإرهابيين إذا منحناهم نفس القدرات الأدبية والفكرية التي نمنحها بسهولة لأنفسنا، حسب تقرير أتلانتك.
نعود لسؤال المقدمة، ما الذي جعل كثيراً من الإرهابيين يندمون على أفعالهم؟ ربما هي مواجهة مآلات أعمالهم؛ فالشباب المنخرطون في منظمات إرهابية يرون نشاطاتهم بالبداية وسائل لتحقيق غاية عادلة، لكن مع مزيد من الانخراط ومعمعة الأحداث والصراع مع جهات مختلفة تتحول الوسيلة إلى غاية، أما الغاية فتُنسى دون انتباه عقلاني.. المواجهة هي عملية تنبيه ذهني وتنوير عقلاني تضع أعمال الإرهابي عارية أخلاقياً أمامه دون تشويش إيديولوجي.. لو لم يمت خالد مسعود، تُرى ما الذي كان ممكناً أن يقوله!؟.