د. محمد عبدالعزيز الصالح
عندما نتمعن في العديد من القطاعات التنموية, خلال العشرين عاماً الماضية, والوزارات التي تشرف على كل منها, يلاحظ عدم وجود إستراتيجيات محددة وواضحة تعمل الوزارات في ضوائها. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه وبمجرد تغيير المسؤول الأول في الوزارة (الوزير)، نجد أن الوزير البديل لا يتردد في نسف أي إستراتيجية مقرة قبل مجيئه, حتى لو كانت تلك الإستراتيجية مقرة من قبل أعلى السلطات في الدولة, وذلك ظناً من معاليه أن نجاحه في منصبه كوزير يتطلب منه إيجاد إستراتيجية جديدة لإيمانه بعدم صلاحية ما وُضع من إستراتيجيات من الوزير السابق. أما الصف الثاني والثالث في الوزارة (الوكلاء ومديرو العموم) فلا يهشون ولا ينشون, ولا يملكون سوى تنفيذ ما يوجه به معالي الوزير الجديد على الرغم من أن توجيه معاليه ينسف جهودهم التي بذلوها خلال سنوات في سبيل إعداد تلك الإستراتيجية.
في ظني أن على معاليه أن يدرك أن انشغاله وإشغال كل قطاعات وزارته في إعداد إستراتيجية بديلة بدلاً من تنفيذ الإستراتيجية القائمة والمقرة من السلطات العليا في الدولة لن يؤدي سوى إلى تعطيل التنمية وإلحاق الضرر بالقطاع الذي يشرف عليه وزارته، وضياع الوقت، وتكبيد موازنة الدولة الأموال الطائلة اللازمة لإعداد الإستراتيجية الجديدة التي يريدها معاليه، من خلال الإنفاق على المستشارين والعقود مع الشركات المتخصصة.
- كل وزارة يجب أن يكون لها أدوات (رؤية ورسالة وأهداف وقيم) تحكم العمل في هذا القطاع، والمفترض أن تقوم كل وزارة بوضع إستراتيجية تترجم تلك الأدوات.
- وعند انتهاء الوزارة من إعداد إستراتيجيتها يفترض أن ترفع للجهات العليا لمراجعتها (من قبل مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية)، ومن ثم إقرارها (من قبل مجلس الوزراء)، والمفترض أن يكون لدى تلك المجالس العليا في الدولة من الخبراء والمختصين في كل قطاع من القطاعات التنموية, وذلك حتى يتمكنوا من دراسة وتقييم مشروع الإستراتيجية المرفوع من هذه الوزارة أو تلك. وذلك قبل صدور الموافقة العليا عليها.
- والمفترض أن تتراوح المدة الزمنية للإستراتيجية بين 10-15 سنة, ومن المفترض أيضاً أن تتضمن الموافقة العليا على الإستراتيجية نصاً يلزم الوزارة التي رفعت الإستراتيجية بالالتزام بالعمل على تنفيذها دون أحقية الوزارة في إلغائها أو تعديلها جذرياً في حال تغيير الوزير. نعم من حق الوزير الجديد أن يجري تحسيناً وتطويراً محدوداً عليها, ولكن ليس من حقه نسف الإستراتيجية برمتها (وكأن ما يفهم في البلد غير هالولد).
- على أرض الواقع, نجد أنه وللأسف هذا غير معمول به, فلو أخذنا القطاع الصحي على سبيل المثال لأدركنا بأن هذا القطاع قد ظُلم وقسي عليه من قبل الوزارة المشرفة عليه (وزارة الصحة) على امتداد عقدين من الزمان، وذلك لعدم وجود واستمرار إستراتيجية واضحة المعالم, فلو تتبعنا آخر أربع وزراء تم تعيينهم في هذه الوزارة, لأدركنا بأن كل وزير يأتي وبدلاً من تنفيذ الإستراتيجية التي عملت عليها وزارته لسنوات قبل مجيئه, نجده لا يتردد في نسف تلك الإستراتيجية والعمل لسنوات على إعداد إستراتيجية جديدة, وبدلاً من العمل على وضع الأدوات اللازمه لتنفيذ تلك الإستراتيجية (سياسيات وأنظمة ولوائح، وقرارات) نجد أنه يقوم بإشغال كل قطاعات وزارته ولسنوات في إعداد إستراتيجية جديدة, وهو ما يؤدي إلى تعطل وتردي القطاع الذي يشرف عليه وزارته, والخاسر الأول من هذا كله هو الوطن والمواطن.
لا أقصد من مقالي هذا وزارة الصحة بعينها وإنما أوردتها فقط على سبيل المثال, مع التأكيد بأن هناك عدداً من الوزارات تسير على البركة لعدم قدرتها على إعداد إستراتيجية لعملها أصلاً.
جانب آخر أود الإشارة إليه, فعندما يعاد هيكلة بعض الوزارات من خلال دمج وزارتين في واحدة, أو فصل وزارة إلى وزارتين (مثل الصناعة والتجارة) أو (العمل والشؤون الاجتماعية)، فيجب أن لا يعني ذلك إنهاء العمل بالإستراتيجيات القائمة وإعداد جديدة بدلاً منها بسبب تلك الهيكلة, فمن الأهمية استمرار العمل بالإستراتيجيات القائمة تحت مظلة وكالات الوزارة ذات الاختصاص والتي كانت وزارات مستقله في السابق.
ختاماً, في بريطانيا يتغير الحزب الحاكم بأكمله وبجميع وزرائه, ويأتي وزراء جدد، ومع ذلك يستمر العمل بالإستراتيجيات الموضوعة من الحزب السابق، أما لدينا, فحتى الآن لا نعلم هل الإستراتيجية للقطاع والوزارة أم للوزير!!!.