د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** إذا كان التأريخُ حكاية الكبار فالروايةُ حكايات الصغار، والسيرة الذاتية متاحةٌ لكليهما، وهو ما يجعلها تتسيدُ المقروئية متى خلت من صنعة الكلمات وتضخيم الذوات، وليس أجمل من السيرة التلقائية التي يرويها ذووها مشافهةً ليجدوا من يضيف إليها أو يقلِّل منها أو يعدل فيها، وهو ما نسميه «الشفاهية التأريخية» التي ما تزال خاضعةً لتعليمات الجهات المعنية وتقديرات الحكَّائين الشخصية وقبول المجتمع المزاجي ونظرة الساسة المتبدلة.
** لم يلجأ بعض الروائيين إلى كتابة «الرواية السيرية» لو استطاعوا كتابة السيرة مباشرةً، مثلما لم تكن السيرة «المراوغةُ» ذات مكانةٍ لو أمكن لذويها قولُها دون خوف من رقيبٍ «مضغت أقفاله ألسنتهم» كما عبر القصيبي يومًا بعيدًا ولجأ يومًا قريبًا للتخفي داخل شخوص «شقة الحرية» و»العصفورية» و»أبو شلاخ البرمائي» و»ألزهايمر» وسواها وسواه ممن آثروا السلامة فلجأُوا إلى الالتفاف كي يقرأَ كلٌ وفق رؤاه؛ فإذا حُوصر الكاتب بنواياه غادر المشهد سالمًا بخسائر معدودة.
** لم يتفق الناس - عبر المدى - على روايات المؤرّخين مثلما تُفتقد الثقة بمعظمهم؛ أقدمين ومعاصرين، ولكن الرواية السيرية كما السيرة المروية تحاول الخروج من أنفاق الهوى والمصلحة، ولا نعدم حقائق مختلطة في أعمال عبدالرحمن منيف مثلًا سواء في «مدن الملح» أو ما سبقها وما تلاها تُشير إلى تأريخٍ غائبٍ أو نظراتٍ منزوية، وفي روايته الأقدم «الأشجار واغتيال مرزوق» كلماتٌ تستحق الاستعادة على لسان «منصور عبدالسلام» عن القضاة والمجرمين والمتدينين والسلطويين والنساء وغيرها مما لم يتخطَّه الواقع وما تثبته الوقائع.
** واليوم انضم محلّلون سياسيون - أو من يتسمون ويتزيَّون بهم - إلى قوافل التغييب فيخصون بني أبيهم بقراءة مختلفة عن بني عمهم، وهو ما أبانه «الربيع العربيّ» وما أفرزه التعامل الإعلامي مع الإرهاب، وهو ما يذكِّرنا بالطرفة الذائعة التي رواها الرئيس الأميركي الراحل «رونالد ريغَن» عن الروسي الذي أجاب الأميركي المعتز بحرية الكلمة في بلاده بمقدرته على انتقاد رئيس الولايات المتحدة في واشنطن بأنه يستطيع فعل الشيء نفسه بانتقاد رئيس أميركا في موسكو؛ ففينا من يرفع صوته اليوم إذا كان الإرهابيُّ سنيًا لكنه يصمت إذا جاء من «شيعته» سواءٌ أقام به أفراد أم ميليشياتٌ أم دول.
** الحرية لا تتجزأ، والكلمة الصادقة لا تنحرفُ في غير اتجاهها؛ سواءٌ أمست غريبًا أم قريبًا، والطائفيةُ لا تنحصرُ في نبش كتب السلفيين من لدن التيميين حتى الوهابيين، وفي المواجهة خضارم قادرون على كشف الحاضر والغوص في الماضي، وقد انكشفت المشروعاتُ الولائيةُ الأجنبية وآن أن ندرك أن ما يسودُ يومًا لا يبقى دوما.
** الحق لا يتخفى.