د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإعلام سابقًا كان يرسم بريشته ما يشاء مستخدمًا الأدوات المحدودة المتاحة، مثل الأدباء والشعراء، وكانت القبائل تفرح عندما يبزغ لديها شاعر فحل؛ لتفاخر به غيرها من القبائل؛ فيعلو كعبها مع أن القبيلة ذاتها لم يتغيَّر لديها شيء، إلا أن الشاعر الجديد رسم صورة جديدة لقبيلته، منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، لكنَّ بعضًا من الناس تسمع شعره فإن استعذبته تناقلته، وارتسمت في أذهان الناس صورة نمطية عن هذه القبيلة أو تلك.. والأغلب من القراء الكرام يعرف قصة قبيلة بني أنف الناقة الذين كانوا يأنفون من هذه التسمية، إلى أن قيض الله لهم شاعرًا قال هذا البيت:
هم الأنوف، والأذناب غيرهم
فمن يساوي بأنف الناقة الذنب
وبعد هذا البيت الذي سارت به الركبان أصبح بنو أنف الناقة يفاخرون باسمهم بين القبائل، وغير ذلك كثير من القبائل، ومثلها حدث للبلدان، والأفراد رجالاً ونساء.
كلنا يعرف ما قاله أبو الطيب المتنبي في كافور من مديح، أبرز صورة ناصعة البياض، وسماه أبا المسك، وأبا البيضاء، وشعره فيه مشهور معلوم، وبعد أن تغيَّرت الحال، بعد أن تضاءلت الآمال، أخذ يقدح فيه قدحًا ما عليه من مزيد، وأصبحت الصورة الأخيرة لكافور مرتسمة في أذهانها بريشة أبي الطيب المتنبي، رغم أن كافور في الحقيقة كان من أفضل الحكام في عصره. وفي عصر آخر مدح المداحون الحاكم بأمر الله الفاطمي، وظلت تلك الصور مرتسمة في أذهان البعض، بل إن مذهبًا بعينه ما زال قائمًا يستقي تعاليمه من تراث ذلك الحاكم الفاطمي غريب الأطوار والأفعال.
والنساء لهن نصيب من تلك الريشة الجميلة التي رسمها الشعراء القدماء بشعرهم. ومن تلك الرسوم ما رسمه قيس بن الملوح لليلى، وجميل لبثينة، وكثير لعزة، وقيس بن ذريع للبنى، وتوبة الخفاجي لليلى الأخيلية، وما قاله كثير من الشعراء في عائشة بنت طلحة. ولك أن تتخيل صورة امرأة رسمها الشاعر دوقلة في قصيدته المشهورة باليتيمة؛ إذ قال:
فالوجه مثل الصبح مبيض
والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد
واليوم يرسم الرسامون بريشهم أبهى الصور، وكذلك ترسم المساحيق وعمليات التجميل وأضواء الاستوديو والملابس والرموش والشعر المستعار وتبييض الأسنان وغيرها؛ لتظهر صورة براقة، قد لا تمثل الواقع، ومن خلالها يمكن توصيل ريشة الإعلام إلى ملايين المتلقين؛ فيستمعون ويسيرون وراء الركب.
إعلام اليوم ريشة ليست كالسابقة؛ فهي ريشة ترسم القبيح والجميل، ريشة تجمل ما تريد، وتزينه وتهذبه، بغض النظر عن حقيقة الأمر، وتعرضه في بوتقة جميلة رائعة، ينساق خلفها الكثير من الناس مبتهجين مهللين، وفي الوقت ذاته ترسم الريشة ذاتها صورة قبيحة لمجموعة أو دولة منافسة، وربما يتجاوز ذلك إلى المعتقدات والقيم والأفكار، وهذا كله يصل بأسرع طريقة وفي لمح البصر إلى ملايين المتلقين من البشر في أنحاء العالم، وبلغات مختلفة. ومن الغريب أن البعض يلهث خلف تلك الرسوم التي يرغب رؤيتها، وهي تزيده أملاً، وتجنبهم الحقيقة التي تكون مؤلمة حقًّا.
من خلال هذه الرسوم، أو الرغبة في الاقتصار على سماع ما يطيب للنفس، تستمر الحقيقة غائبة، وينساق الملايين خلف سراب ليس له نهاية.
لو كانت الحقيقة تقال عبر تلك الرسوم الكثيرة المتناثرة في القضاء، وفي الأجهزة المحمولة والثابتة، لاختار المرء المسار الحقيقي الذي يراه صوابًا، لكن - مع كل أسف - تلك الرسوم الإعلامية تجعل الفرد يزداد إيمانًا بما يطرح له؛ فيزداد في جهله بحقيقة الأمر، ويستمر في ممارسته لما هو خطأ، وهو يظنه صوابًا. في اليمن مثلاً تتقدم جيوش الشرعية والإعلام الآخر يرسم صورة خاطئة، وينساق وراءها البعض؛ فيموت الكثير لجهله بالحقيقة، ولاستمتاعه بتلك الصورة التي رسمتها تلك الريشة الإعلامية المضللة. ومثلها في سوريا وفي إيران، وغيرهما.
ومع كل أسف، نجد أيضًا أن هناك صورًا ترسمها ريش وسائل إعلام كثر عن معتقدات معينة من أطراف عديدة ومتضادة، تظهر بعضها بعضًا بمنظر يختلف عن الواقع كثيرًا؛ فتزيد الهوة، وتتراكم الضغائن، فيتبع ذلك الكثير من الآلام والمآسي والأحزان من جميع الأطراف.
إنَّ الرسوم التي ترسمها تلك الريش الإعلامية دائمًا ما تكون موجهة طبقًا لغايات وطنية ودولية، وقبل ذلك شخصية؛ لتحقق غايات وأمجادًا للبعض.. فمن العجب أن يبقى مضللاً لغيره للبقاء على كرسي السلطة عشرات الأعوام، بغض النظر عن الدمار والخراب المصاحب لذلك.