د. عبدالحق عزوزي
تعيش بعض الأوطان مثل الأوطان العربية، في السنوات الأخيرة، أزمات صعبة ومتتالية إلى حد أن التسونامي المجتمعي الذي لحق ببعض الأقطار كان من نتائجه الحصرية تغيير النظم وتفكيك الدول. وهذا الواقع أدخل العديد من الكيانات في أطوار مجهولة الملامح بسبب دورات الصعود والهبوط في ديناميتها. انفجرت الأزمة في تونس، ولحقتها مصر قبل أن تتوالى الانتفاضات في ليبيا واليمن وسورية، وظن البعض أنها تستحق صفة «الثورة العربية الكبرى» فكأن «كل أزمة تاريخية مؤداها إلى مأزق، والمأزق لا يدوم إلى الأبد. لا بد أن ينفجر لتنفرج الأزمة، فكأن المثل العربي الشعبي «اشتدي أزمة تنفرجي...» جاء مصداقا لحكمة التاريخ». ولكن بعد العديد من السنوات من كتابة هذا الكلام، فإن تشخيص الأزمات الحالية توحي بأن أغصان شجرة الانفراج لم تورق بعد، إن لم نقل إنها لم تظهر بعد. فتشخيص عوامل الأزمة والانفراج في الوطن العربي في أبعادها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإقليمية والدولية، تجعلنا نقر بأن الأزمة لا يمكن اختزالها في يافطة أزمة الانفتاح السياسي وصناديق الاقتراع، بل إنها أزمات أعمق وأدهى، وتحدث شرخا مستمرا في جدار الدولة الوطنية في الوطن العربي، بل إنها تهدد وجود الدولة كما هو الشأن في ليبيا، وتؤصل لأزمات لا تخمد في علاقة الدولة بقوى المجتمع المختلفة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الخرائط التقليدية للجيوبوليتيك قد تغيرت. فيخطئ الكثيرون عندما ينظرون بنوع من الحنين إلى العالم القديم وإلى صراعاته الكلاسيكية ويقرون على أنها حبيسة المنطق الترابي أو السياسي أو الاستراتيجي في حين أن العالم أضحى متحركا، ومحدداته متخطية لحدود الدولة-السيادة وفي تنظيم مستمر تحدده التحركات والسلوكات الاجتماعية حول تحديات معظمها اقتصادية-اجتماعية.
فخلافا للظواهر الصراعية التي كانت تطبع فترة الحرب الباردة والعقد الأول الذي تلاها، لم تعد القوة العسكرية الغربية هي المحدد في إخماد صراعات دول الجنوب، فمهما وصلت القوة العسكرية لدولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه في ظل العولمة ومحددات الفترة الراهنة، فإن هاته القوة لا يمكنها تحقيق الأهداف التقليدية التي كانت تحكم الصراعات القديمة، فبدأنا نشاهد مظاهر شتى لوهن الدول القوية ومظاهر أخرى لقوة الدول الضعيفة على الساحة الدولية؛ هذا الوهن الجديد الذي بدأ يسم قوى الدول العالمية مرده إلى الأزمات المتتالية التي تعرفها محددات هذا النظام الجديد المطبوع باللايقين والمجهول في عالم غير منظم.
وصلنا إذن إلى مرحلة جديدة انتقل فيها النظام العالمي من السيادة إلى الارتباط والاعتماد المتبادل بين الدول، ومن قاعدة أولية القوة إلى قدرة الدول الضعيفة أو الصاعدة (اقتصاديا) في زعزعة النظام العالمي القديم، ومن الترابية إلى مسألة «الحراك» و«التحرك» الدائمين، ومن القراءة الكلوزفيتزية للحرب المبنية على صراع الدول، إلى نوع من الصراع قائم على تفكك المجتمعات الداخلية، وبمعنى دقيق فإننا أمام انهيار النظام الفيستفالي الذي بني ابتداء من سنة 1648.
إن دولا مثل اليابان والصين فهمت هاته القواعد الجديدة، ووعت الأحداث المتتالية التي وقعت بعد نهاية الحرب الباردة، ونجحت في التموقع الجيد في النظام العالمي الجديد وأجادت عمليات المراوغة اللبقة وقواعد الحذر والرصانة دون هييج ولا ضجيج ودون أية رغبة في الهيمنة على الآخر كيفما كان نوعه، والتجذير لقواعد جديدة في العمليات التبادلية.
ودولة الصين أيضا، استطاعت فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» تسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا اللتين يسعيان إلى تصدير النموذج الغربي زاعمة أنه لا يمكن تحقيق أي نجاح دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي بل وأيضا نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فالصين، مادام أن أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل، وتمؤسس لقاعدة مفادها بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية»صديق-عدو» وإنما في إطار «رابح-رابح» win-win
إننا اليوم في حاجة إلى عاصفة فكرية بالدرجة الأولى، تستلزم منا أولا بلورة إستراتيجية تداوي مرض العقل والواقع العربيين للإجابة عن معضلات البناء التنموي والنهضوي والوحدوي، وتستلزم منا ثانيا التموقع الجيد في النظام العالمي الجديد حيث العولمة لا ترحم إلا من يجيد فهم قواعد اللعبة المصيرية.