د. إبراهيم بن محمد الشتوي
رواية أبناء الأدهم للأستاذ جبير المليحان فازت في جائزة وزارة الثقافة الموسم المنصرم؛ وهذا يعطي انطباعًا جيدًا عن الرواية، إضافة إلى الانطباع الذي يمنحه اسم الكاتب؛ فهو مؤسس موقع القصة العربية، وله تجارب قصصية سابقة على هذا العمل.
الرواية تصنف في الروايات التي تتبنى التراث الشعبي والأسطوري في تكوين أحداثها، وتحاول أن تستثمر الذاكرة التاريخية الثقافية في بنائها؛ وهذا يجعلها داخلة فيما يسمى بالنقد الروائي الحديث الواقعية السحرية التي تشبه الواقع، ولكنها ليست واقعية بالمعنى التقليدي.
وهذا النوع من النصوص يتطلب أدوات مختلفة في قراءتها، أكثرها تأويلية تسعى لأن تتخذ العناصر التي كونتها رمزية؛ فمستوى الانفتاح الرمزي في هذه الحكايات كبير؛ وذلك لانعدام المنطق المتعارف عليه في الأحداث، أو لغياب عنصر مهم من عناصر الواقع الذي تحيل إليه؛ وهو ما يجعل غياب هذه العناصر معززًا لحضور المعنى والبحث عنه.
فالرواية تقوم على حكاية تسمية جبلَي أجا وسلمى في حائل، اللذين سُميا على رجل وامرأة تحابا ضد أعراف القبيلة، وقيمها، وتزوجا أيضًا؛ ما جعلها -القبيلة- تلحق بهما، وتقتلهما بين الجبلين؛ فسُمِّيا باسمهما.
هذه إعادة صياغة للحكاية التي جاءت في المقدمة، لكن الرواية تنحو منحى آخر، إذ توجد زمانًا، ومكانًا، وأعرافًا اجتماعية، وحياة لأشخاص الرواية، وأسلوب حياة يعطي هذه الرواية ميزتها الخاصة التي تتميز بها عما سواها من النصوص.
تبدأ هذه الغرابة من المكان الذي تدور فيه الأحداث، فهي في أودية، وشعاب، وحياتهم حياة البدو في كل ما يتصل بها من قيم وعادات، في اللغة، والمأكل، والملبس، واقتناء الإبل والغنم، والرعي، والعيش على الغزو، والسطو.. لكنهم مستقرون، ويعملون بالزراعة مثل أهل الحاضرة، ويعرفون السواني، والآبار. وهي مفارقة كبيرة؛ إذ إن أهل الزراعة والتجارة كما يعمل «مران» في قريته الأولى والثانية تختلف عن حياة البادية كما هي حياة الأسرة الأولى، وحياة والد «منهاد». وهذه الأسر متصلة فيما بينها، مترابطة العادات، والأعراف.
وهذا يعزز أن مخيلة الكاتب قد قامت بدور بارز في بناء المكان، وأن الحكاية الشعبية التي أُسست الرواية عليه كانت المادة الخام للنص، في حين أن الصناعة الكلية للحكاية ببناء شخصياتها وسائر عناصرها هي من صناعة المؤلف؛ الأمر الذي يعني أن الكاتب قد استفاد من ثقافته وخبرته في ذلك؛ وهو ما يجعلها مادة خصبة للتفسير، والتأويل.
وعلى الرغم من الدمج في الحكاية بين حياة البداوة وحياة الحاضرة في مرحلتها الأولى إلا أن مسألة الأصالة في بناء الشخصية الروائية/ القبلية غير مطروحة بشكل عميق يتناسب مع وجودها في الحقيقة، شخصيات الرواية لا يمتدون بالتاريخ إلى أجيال كثيرة، وكلهم يعيشون في جيل واحد، وقد نبتوا من لا شيء؛ فمران كان صبيًّا، يرعى الغنم، لا يعرف منهم أهله، ولا جماعته، وكل ما يذكر أن قومًا من الغزاة هجموا على قبيلتهم، واستاقوا نعمهم، وقتلوا أهله؛ ما أدى به إلى الوقوع في أيدي أناس يتخذونه عبدًا لهم، إلى أن يلتقي جماعة من الشبان، لا يعلم من أين جاؤوا ولا أين ذهبوا، يتفق وإياهم على الفرار من القبيلة الأولى، والبحث عن مأوى في مكان آخر، ويتحقق له ذلك، ثم يرتحل مرة أخرى حين لم يرضَ بالمقام إلى مكان ثالث، وفي كل هذه الأماكن لا تشكل قضية الغربة ولا معرفة تاريخ الشخصية قضية ذات بال بالنسبة للمحيطين به إلا شيئًا يتذكرونه بين الفينة والأخرى.
ومثل «مران» كذلك «عبد الحي»، الذي نزل قريبًا من محلة «مران»، وتداخل في الناس حتى أصبح واحدًا منهم، ولولا أن «مران» كان لديه من الاعتداد بالنسب الذي لا يملكه لما نشأت مشكلة القصة، وهي من وجهة نظر والد «سلمى» عدم تكافؤ النسب، بالرغم من أنها قضية مفتعلة؛ فمران والد «سلمى» ليس له نسب، وهو يدرك أن تنقله بين القرى كان فرارًا من هذه القضية.
ومع هذا التناقض بين واقع مران ودعواه التي انبنت عليها حبكة الرواية لم تلق اهتمامًا، أو عناية تذكر في النص الروائي؛ باعتبارها إحدى القضايا التي تستحق الوقوف عندها من قبل «أجا»، وهو يقوي دعواه في أحقيته بـ»سلمى».
والوجه الآخر لعدم العناية بالأصالة في النص الروائي، والعمق التاريخي للشخصية، ما نلاحظه في أن «منهال» بنت شيخ القبيلة، لا تستنكف أن تحب راعي الغنم، وأن تتزوجه، ثم لا ترى بأسًا أن تتحول إلى خادمة في منزل زوجة مران، وهو تحول اجتماعي كبير، لا يتناسب مع شخصية «منهال»، واعتدادها بنفسها الذي جعلها ترفض ابن عمها.
وهذه التحولات هي جزء من بنية الحكاية الشعبية التي ترفض الواقع لتؤسس واقعًا آخر جديدًا، تقيم فيه علاقات مغايرة، يفرض نوعًا من القيم الاجتماعية، تسعى لتحقق الرؤية الكلية للنص.