أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: تأتي التاءُ في مثلِ (راوِيَةٌ) لبلوغ الغاية إذا كان وزنُ ما دخلت عليه (؛ وهو رَاوٍ) ليس لها هذا المعنى؛ فهذا لبلوغ الغاية في فعله الرِّوَايَةَ؛ وتأتي لتجريدِ الوصفِ للاسمية كـ(الراوية) بمعنى المَزادة؛ وفي هذا التجريدُ دلالةٌ على بلوغ الغاية من وجهٍ آخر؛ وهو جعل الوصف اسماً ملازماً؛ والاسْمِيَّةُ في كلمة الجلالَةُ غيرُ واردة؛ لأن الجلال لا يقبل الأَفراد؛ فتكون الجلالةُ واحِدهً؛ فتلخص من ذلك أنَّ الجليلَ هو اتِّصافُ ربنا في نفسه جل جلالُه بالجلال المُطْلق، وأنَّ الجلالَ بمعنى الكمال المُطلق في صفته، وأنَّ الجلالةَ تأكيدٌ لذلك.. وأمَّا مآلُ (الْعَقْلُ الجماليُّ) إلى الكمال؛ وهو كمال مُطْلَقٌ في حقِّ الله سبحانه وتعالى؛ وهو في حقِّ عبداللهِ المؤمْن مُنَتَهى ما جعله الله له مِن قُدْرَةٍ في بلوغِ غايةِ ما يستطيعه من كمال.
قال أبو عبدالرحمن: يستطيع مُتَذَوِّقُ الجمالِ ذو الْمَوْهِبَةِ الإمدادَ بروائعه نثراً أو نظماً أنْ يَجْنِيَ على الجمالِ إذا تَخَلَّى عن قِيمتَي الجلالِ والكمالِ؛ فيحوِّلَ الجمالَ إلى قُبْحٍ كالعسل اللذيذِ الذي يُسْتَشْفَى به بإذن الله؛ وذلك بِزُخرفٍ من القول يجعله قَيْئَ الزنابير (؛وفي زُخْرُفِ القولِ تحسينٌ لباطله)، وكتاب (المحاسنُ والمسائُ) للبيهقي الأديب (؛وهو غيرُ البيهقيِّ الإمام) نَمُوْذَجٌ للتلاعب الفني الجمالي؛ وهذا ليس محلَّ خلافٍ؛ وإنما الخلافُ المؤذي في مذهبِ مَن يجعلُ الجمالَ الطبيعيَّ دون الجمالِ الفنيِّ، ويجعلُ الجمالَ الفنيَّ أسْمَى مِن الجمالِ الطبيعي؛ و(هيجل) في كتابه (الْمَدخَلُ إلى علم الجمال) يزعم أنَّ الروحَ أسمى من الطبيعة، وأنَّ الجمال الفنيَّ نتاجُها؛ فهو أسمى؟!!.. وزاد (أندريه ريشار) في البوقِ بُحَّةً بكتابه (النقدُ الجمالي)؛ لأنَّ الإحساس المباشرَ للفنان عنده كذلك، وخيالُه وحدْسُه وعاطفَتُه هُنَّ مصدرُ كلِّ جمال فني، وزاد غيره أنَّ الفنانَ يُضِيف إلى الطبيعة جمالاً وواقعاً، ويهذِّبه ويختصره أيضاً، ويحوِّلُ ما فيه من دِلالةِ إلى ما تريده مشاعِرُ الفنانِ الغزيريَّةُ الجياشةُ، وعندهم أن كل ما سلف تأهيلٌ لاخْتراعِ عالَمٍ جديد بملكةِ الخيال.
قال أبو عبدالرحمن: الجمالُ الْفَنِيُّ، وقُدْرةُ مُخْتَرِعِه بملكةِ الخيال هو من الجمالِ الطبيعيِّ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو خالِقُ الفنان، وخالِقُ اختراعِه، وخالِق خيالِه؛ والفارقُ بين المُواضعة على الجمالِ الفنيِّ، والجمالِ الطبيعيِّ الذي لم يَخْتَرِعْه الفنانُ البشريُّ: أنَّ الجمالَ الطبيعيَّ هو إبداعُ رَبِّنا سبحانه وتعالى مباشرةً من غيرِ توسُّطِ ذي الجمال الفني الذي هو ذَرَّةٌ فيما أبْدعَه ربُّنا جل جلالُه، وَمُؤَلِّهُوْ الجمالِ الفنيِّ يزعمون أنَّ حُرِّيَةَ الفنانِ مطلقةٌ؛ لأن عمله ليس نسخةً من الطبيعة؛ وإذْ لم يحجزْهم الورعُ في حق فاطر السماوات والأرض سبحانه وتعالى: جعلوا الفنانَ قادراً على تحويلِ الصُّنْعِ الرباني في الطبيعة إلى إبداعٍ إنساني في العمل الفنيِّ.. جعلوه عملاً إنسانياً بحتاً حُرَّاً، وبعض الْمُجدِّفين يُسَمِّيه خلْقاً؛ فأولئكَ الْمُجَدِّفونَ: يتمَسَّكُونَ بكلِّ ما هو حُجَّةٌ عليهم بَعْدَ أنْ يُحَوِّلُوْنَه إلى دعاواهم الظالِمَةِ؛ وذلك اِغْتِصابٌ للبرهانِ بَغيْضٌ؛ وَخيْرٌ مِنْ هؤلاءِ (جورج سانتيانا) في كتابه (الإحْساسُ بالجمالِ)؛ وهو من بواكير الدراساتِ الجمالية التي عرَفتْها اللغةُ العربية؛ فقد بَيَّنَ أنَّ الرَّجُلَ العاديَّ لا يَلْمَحُ الْمَنْظَرَ الطبيعيَّ الغنيَّ بإيحاآته ورموزِه التي تُثير الانفعالاتِ الغامضةَ في الإنسان؛ فتحوِّلُه إلى أرْوعِ جمال فني!!.
قال أبو عبدالرحمن: نحن نتكلم كثيراً عن حُلُمِ اليقظة ولا نَعِيْ مِن معانيه إلَّا الأمانيَّ والأحلامَ من حديث النفس؛ وهي في شعر امرىءِ القيس الْمَنْحُولِ المكذوب: تجعل الفتَى مَلِكاً ولم ترفع له راساً!!.. إلا أنَّ مِن نفائس حُلُمِ اليقظة الغِذَاءُ الروحيُّ الفنيُّ الذي سمَّاه (جورج سانتيانا) الإدراكَ الباطنيَّ للمنظر الطبيعي؛ وهو مصدرُ إلهامِ العملِ الفنيِّ المبدع.. يكفي أنْ يَعِيَ القارِئُ هذه المسألةَ تصوراً لا حُكمْاً، وأنْ يَعِيَ ثانيةً أنَّ (سانتيانا) قد قَرَّرَ التعاملَ مع الطبيعة تعاملاً نفعياً عند كافة البشر، وأن استنطاقَ جمالِ الطبيعةِ والسموَّ به إلى جمالٍ فني هُما خاصِيّةُ النادرين من الفنانين.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى مع روائعِ الجمال, والله المُستعانُ.