د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبت في صحيفة الجزيرة الغراء أن عاصفة الحزم هي إيذان بضرورة تبني عاصفة استراتيجية أخرى، هي عاصفة فكرية بالدرجة الأولى، تستلزم منا نحن -أهل الرأي والمعرفة-، تحالفا فكريا لبلورة إستراتيجية تداوي مرض العقل والواقع العربيين بوصفات حقيقية وناجعة، وهذا كنه اجتماعاتنا المتتالية التي التأمت في أبو ظبي والمنامة والرباط ثم قبل يومين في القاهرة في موضوع: «الأمن القومي العربي في عصر جديد»، وهذا كفيل طبعا بتبصير المجتمعات وصناع القرار العربي بحجم المأساة التي نعيشها والتي يمكن أن تتفاقم إذا لم تزل المسببات في الإبان، فالواقع أدخل العديد من الكيانات في أطوار مجهولة الملامح بسبب دورات الصعود والهبوط في ديناميتها.
في اللقاء الأخير الذي جمعنا في القاهرة بتنظيم مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، عهد إلي بالحديث عن تحدي تماسك الدولة الوطنية، وقد أشرت في تدخلي إلى عدة قواعد أعتبرها من الضروريات والتي بدونها ستضيع القشرة الحامية للدولة، ومصالح الخاص والعام:
- زرع الثقة بين الحاكم والمحكوم وبين الدولة والمجتمع في مجتمعات كتونس من أولويات الأولويات، لأن على الجميع أن يعمل في إطار المؤسسات وفي إطار الدولة الأم ومحاولة الإصلاح من الداخل بعقلية جديدة وبأفكار متنورة جديرة بالمحافظة على القشرة الحساسة الحامية لهبة الدولة ولمبدأ ديمومة المؤسسات.. وقد تابعنا الانتخابات الفرنسية الأخيرة ولاحظنا كيف أن انعدام الثقة بين الفرنسيين وحاكميهم أدى لأول مرة في تاريخ فرنسا إلى إقصاء اليمين واليسار على السواء من المشاركة في الدورة الثانية في الانتخابات الفرنسية. ويمكن أن نستحضر تجربة العراق عندما قامت القوات الأمريكية بحل القوات العسكرية والبوليسية العراقية بعد سقوط نظام صدام كيف تفككت الدولة العراقية في رمشة عين وأصبحت الدولة ولا تزال مرتعا للتناحر بين الطوائف والملل؛ فكل التجارب السياسية التي مرت منها دول أوربا الغربية والشرقية وأمريكا اللاتينية كانت صعبة وشاقة، ولكن محدد النجاح أو الفشل هو الثقة، الذي يجب أن يغرس ويسقى بماء الذهب في المجتمع وبين الأحزاب وبين المؤسسات بل وبين الأفراد وحاملي لواء تسيير الدولة وأجهزته؛ ولأنه إذا تقوى الشك وانعدمت الثقة بين الفرد والدولة وبين الفرد والمجتمع عمت الفوضى وتلاشت الفضائل السياسية في المجتمع دفعة واحدة، فلا الفرد يثق في الحزب ولا المؤسسات ولا قدرتها على التسيير والتنمية ولا هبة الدولة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرقبة، يمكن أن تتقوى...
- إن استقراء تجارب الأمم وتاريخ الدول يحيلنا إلى قاعدة مركزية في بناء الدولة ما بعد الاستعمار أو الدولة ما بعد انهيار النظام الدكتاتوري، ألا وهي الوحدة الوطنية وقوة السلطة المركزية أولا وقبل كل شيء؛ ثم بعد ذلك يمكن للسكان، وبعد تراض عام، اختيار النمط المناسب في الصفة الإدارية لجهات الدولة. فالوحدة تشمل وحدة الدولة والوطن والتراب التي لا يمكن لأي فيدرالية (مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية) أو جهوية متقدمة (كإسبانيا) أن تتم إلا في نطاقها...
كما أن الوحدة يجب أن تشكل عاملا أساسيا لتقوية الصفة الإدارية للدولة من جهوية موسعة أو فدرالية أو غير ذلك، وعاملا لتقوية الاندماج الاقتصادي والاجتماعي لأن من أسباب وجودها هو المساهمة بشكل حاسم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلد، وفي الاستثمار الأمثل للمؤهلات والموارد الذاتية لكل جهة واستنهاض همم مختلف الفاعلين المحليين، والمشاركة في تصور وإنجاز المشاريع المهيكلة الكبرى وتقوية جاذبية الكيانات الترابية للبلد
- وإذا صح لنا إذن أن نلخص ضرورة ما يجب الالتزام به في كل قطر من الأقطار العربية في كلمة واحدة لقلنا أن ذلك يكمن في الحكمة، والحكمة هي التي تسقي جذور الإصلاح، وهي التي تبني المجال السياسي العام على أصول لا تحور ولا تبور، وهي التي تجعل من الفكر المسلم عقلا ناهضا، ومن المجتمع مجتمعا سويا، ومن كل الأجهزة مؤسسات تبني وتتكيف مع الواقع والمستقبل.
وهاته الحكمة هي التي تتكيف مع الواقع والمعاش وخصائص كل دولة على حدة، فليبيا بتنوع طوائفها، ليست هي الأردن، ومصر ليست هي السعودية، والمغرب ليست هي تونس، كما أن فرنسا ليست هي بريطانيا ولا هي ألمانيا، كما أن هاته الأخيرة ليست هي الولايات المتحدة الأمريكية، فلكل دولة خصائصها، ولكن ثبت للخاص والعام أن الحكمة هي التي حققت لشعوبها التنمية والرخاء، وأنه في أوطاننا يجب أن يكون الدين للجميع، ولا يمكن لأحد أن يكون وصيا عليه بإدخاله في جراثيم السياسة المتغيرة والمبنية على إدارة الاختلاف.... وخد مثال عراق صدام وسوريا بشار وليبيا القذافي، هؤلاء قوم غابت عنهم الحكمة، ولو رزقوا الحكمة لبسط لهم التاريخ بساطا أحمر في سجلاته ولما ظهرت داعش وأخواتها....