سهام القحطاني
قبل البدء
تحية من الجنة لشهداء البطولة.. فسيظلون رمزا للوطن الخالد،رحم الله شهداء الواجب،فهم متن التاريخ الذي لن ينساه أحد.
***
بعد وفاة الرسول الكريم تعرض مصطلح «هوية الأمة» إلى هزة لعدة أسباب أهمها:
بٌني الإسلام على مستويين من الثورة؛ الثورة العقدية والثورة الاجتماعية،وكلا المستويين ليسا مستقلين عن بعضهما بل يسيران في منظومة تكاملية تهدف غايتها إلى بناء الإنسان المسؤول عن تحقيق «قيمة العبادة» أصل الخلق والمساءلة.
انشغلت الفترة الأولى في حياة الدعوة الإسلامية- في مكة - و ركّزت في بناء و تثبيت تشريعات المبادئ و القيم العقدية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى «قوة التحوّل العقدي وشدّته» في حياة «كفار العرب» وهو ما ترتب عليه مقاومة كفرية مساوية لقوة وشدة ذلك التحوّل، في حين أن المقاومة فيما بعد وخاصة عند «كفار غير العرب» بعد توسع الإسلام لم تكن بتلك القوة و الشدة، لوجود تماثيل و شرائح و نماذج واقعية لتشريعات و مبادئ الإسلام تتحرك على الأرض، فإيمان المرء يقوم على طبيعة ما يراه، وكلما كانت العقيدة مشدودة و مدعومة بنماذج واقعية تصادقت مع قناعة المرء.
فعظمة التشريعات الأخلاقية في الإسلام هي التي أسهمت في انتشار الإسلام دون إراقة نقطة دم، وهذه قيمة يحاول كل إرهابي اليوم يتستر بالإسلام من نقضها و التشكيك فيها و تشويهها ،فالإسلام انتشر في بقاع الأرض بفضل خطابه الأخلاقي وليس بقوة الإرهاب و التطرف و العنف.
أما الفترة الثانية في حياة الدعوة الإسلامية فكانت في يثرب،وهذه الفترة انتقل الإسلام من خلالها من الخطاب الدعوي العقدي إلى الخطاب المدني المتعلق بالتشريعات الحياتية سواء على مستوى المعاملات أو العبادات، و سبب انحسار مجال الخطاب الدعوي في العهد اليثربي؛ أن أغلب سكان يثرب كانوا من المسلمين المهاجرين من مكة؛ أي أن البنية الرئيسة كانت قائمة على العنصر المسلم، إضافة إلى الأنصار أي بنية رئيسة مسلمة مساندة للمهاجرين، وبذلك فإن الخطاب الإسلامي كان موجها بطبيعة الحال إلى مسلمين وليس كفارا، وكان المسلمون حديثي العهد بالإسلام كمنظومة لثورة الاجتماعية، لذا نزلت أغلب السور المدنية معلّمة للتشريعات الاجتماعية في مجال المعاملات و العبادات،إضافة إلى اهتمام الخطاب الإسلامي بفئة ثالثة في المدينة تُعتبر جزءا من البناء الديموغرافي ليثرب وهي «فئة أهل الكتاب أو اليهود».
ولذا سنلاحظ أن مُفتتحات الخطاب في السور المدنية كانت «يا أيها الناس» وهو خطاب لفئات المجتمع اليثربي سواء من المسلمين أو اليهود.
وهو مفتتح كان يُرسخ لخطاب تعايشي بين المسلمين والآخر؛ اليهود الذين كانوا في يثرب، لذا ساوى بين الجميع في جملة التشريعات المنظمة للحياة المدنية في يثرب، ولذا اقترب الخطاب القرآني اليثربي إلى الخطاب المدنيّ أكثر من الدعويّ.
لكن أي ثورة اجتماعية لا تحتاج فقط لتشريعات بل تحتاج أيضا لمنظومة قوانين تُرسخ تلك التشريعات و تفرضها و تحميها،و تطبيقات مستمرة الفاعلية.
لكن ما حدث أن المسلمين في المجتمع اليثربي انشغلوا بحروبهم مع كفار قريش و بقية القبائل وهذا الانشغال أبطأ عملية ترسيخ الثورة الاجتماعية الإجرائية بما فيها «هوية الأمة».
وخاصة أن الإجراء الذي كان يستخدم لتصويب و تقويم أي خلل في إجرائية مبادئ تلك الثورة كان قائما على «التغذية الراجعة» مثل الذي حدث لأبي ذّر الغفاري عندما شتم بلال بن رباح بأمه، و قال له»يابن السوداء» فقال له الرسول الكريم «إنك امرؤ فيك جاهلية» فقال أبو ذّر: «هذا من كِبر السن» وهذه العبارة تُشير إلى حقيقة اجتماعية و هي أن الثورة على أي منظومة اجتماعية غالبا ما تجد صعوبة كلما اتسعت دائرة الجيل المنتمي للمنظومة السابقة فالتغيير يصبح أكثر صعوبة للجيل المنتمي للمنظومة القديمة وتغلغلها في اللاوعي الفردي والجماعي بحيث يصبح التطهّر منها مسألة صعبة و طويلة المدى،كما أن إجرائية التغذية الراجعة التي كان يعتمد عليها الرسول الكريم في تقويم أي خلل أخلاقي أو اجتماعي عادة ما تتصف بالمدى القصير للأثر لمحدودية الحاضر والزمن قبل تثبت سنة الرسول الكريم و تداولها.
وعندما نتأمل البنية السكانية للمسلمين الأوائل سواء في المجتمع المكي أو اليثربي يمكن تقسيمهم إلى قسمين؛جيل عاصر الجاهلية جل عمره و دخل الإسلام،وجيل تربى في ظل الإسلام. أما الجيل الأول فلم يتخلص من الأثر اللاوعي لتربية الجاهلية، ولذا «ارتدّ بعد وفاة الرسول الكريم» وكثير منهم اهتم بتنمية وعيه العقدي وهذا الاهتمام دفعه إلى اعتزال الحراك الاجتماعي مما جعل الساحة الإسلامية مفتوحة لعودة الجاهلية الاجتماعية، ولذا برزت مرة أخرى العصبية القبلية.
أما الجيل الذي تربى في ظل الإسلام فانشغل بالفتوحات المستمرة،رغبة في الجهاد والشهادة لِما لهما من أجر، وهو انشغال عطّل دوره التوعوي في مجتمع حديث بالثورة الاجتماعية، ولذا لا نستغرب عندما يبدأ المجتمع العربي العودة تدريجيا إلى الجاهلية الاجتماعية، العودة التي زعزعت العروة الوثقى لهوية الأمة، وأطلقت صرخة الخليفة العادل عمربن الخطاب رضي الله عنه «ومتى استعبدتم الناس وقد ولدوا أحرارا» عندما ضرب ابن عمرو بن العاص غلاما قبطيا في سباق خيل.