د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
هل ذُقتَ العشقَ يوماً؟ هل شعرتَ بطعمه؟ هل يمكنك أن تصفه؟ كيف كنتَ قبله وكيف أصبحتَ بعده؟ هل تعرف حقاً ماهية هذا الشعور الإنساني؟ وهل جرَّبتَ يوماً أن تعشق؟ أتعتقد أنَّ الوقوع في هذه الحالة الشعورية باختيار العاشق أم رغماً عنه؟ وما أوصاف العاشق؟ وكيف تعرف أنك وقعتَ في شِراكه؟
يعقد ابن القيم في (روضة المحبين) بابه العاشر في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه، ويورد نصوصاً مهمة في الكشف عن حقيقة هذا الشعور الإنساني العجيب، فهو من ناحية طبية مرضٌ وسواسي شبيه بـ(الماليخوليا)، يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور والشمائل، أما من ناحية فلسفية فهو طمع يتولَّد في القلب ويتحرَّك وينمي ثم يتربى ويجتمع إليه من مواد الحرص، وكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الطمع، والحرص على الطلب، حتى يؤدي ذلك به إلى الغم والقلق.
ويقول أرسطاطاليس: العشق عمى الحس عن إدراك عيوب المحبوب. وقيل: إنَّ جرير أخذ من هذا قوله:
فلستَ بِراءٍ عيـَ ذي الوُدِّ كُلَّهُ
ولا بعضَ ما فيه إذا كنتَ رَاضِيا
فعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ
ولكنَّ عينَ السُّخْطِ تُبدي المساويا
لكنَّ مذهباً آخر يُزري هذا الشعور، ويرى أنه ناتج من فراغ في الفكر وفراغ من العمل.. يقول أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة! أما أرسطو فيقول: إنَّ العشق جهلٌ عارضٌ صادف قلباً فارغاً، لا شغل له من تجارةٍ ولا صناعة! وقال غيره: هو سوءُ اختيارٍ صادف نفساً فارغة! ولعل قيس بن الملوح يؤكد هذا المذهب بقوله:
أتاني هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوى
فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّـنا
أما العرب فقد كان لهم صولات وجولات في تفسير هذا الشعور العجيب؛ فالجاحظ يرى أنَّ العشق اسمٌ لما زاد عن المحبة، كما أنَّ السَرَف اسمٌ لما جاوز الجود؛ فكل حُبٍّ يُسمَّى عشقًا ولا عكس. ويقول غيره: لم أرَ حقاً أشبه بباطل، ولا باطلاً أشبه بحق، من العشق؛ هزلُهُ جِدٌّ وجِدُّه هزلٌ، وأوله لَعِب وآخره عَطَب!
ويروى أنَّ بعضهم طلب من مجنونٍ، قد أذهب العشقُ عقلَه، أن يجيز هذا البيت:
وما الحُبُّ إلا شُعلةٌ قَدَحتْ بها
عيونُ المها باللحظِ بين الجوانِحِ
فقال على الفور:
ونارُ الهوى تخفى وفي القلبِ فِعلُها
كفعلِ الذي جاءتْ به كَفُّ قِادِحِ
وسأل الأصمعي أعرابياً عن العشق فقال: جلَّ والله أن يُرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامنٌ ككمون النار في الحجر، إن قُدح أورى، وإن تُرك توارى.. وقال بعضهم: العشق نوع من الجنون، بل هو أعظم منه، وهكذا كان يراه مجنون ليلى حين قال:
قالوا جُنِنتَ بـِمَنْ تهوى فقلتُ لهم:
العـشـقُ أعظمُ مِمَّا بالمجانينِ
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه
وإنـَّما يُصرعُ المجنونُ في الحينِ
وقيل إنَّ العشق ملِكٌ غَشُوم، مُسلَّطٌ مظلوم، دانت له القلوب، وانقادت له الألباب، وخضعت له النفوس، العقلُ أسيرُه، والنظر رسولُه، واللحظُ لفظُه، دقيق المسلك، عسير المخرج.. وقيل لآخر: ما تقول في العشق؟ إن لم يكن طرَفاً من الجنون، فهو نوعٌ من السحر! وقال أعرابي في وصفه: بالقلب وَثْبتُهُ، وبالفؤاد وَجْبتُهُ، وبالأحشاء نارُه، وسائر الأعضاء خُدَّامُه؛ فالقلب من العاشق ذاهل، والدمع منه هامل، والجسم منه ناحل، مرور الليالي تُجدِّدُه، وإساءة المحبوب لا تُفسِدُه.
ويرى بعضهم أنَّ أسباب العشق ليست موقوفةً على الحسن والجمال، وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة فيها كما قيل:
وما الحُبُّ مِن حُسنٍ ولا مِن ملاحةٍ
ولـكنـَّهُ شيءٌ به الروحُ تَكْلَفُ
لكن ماذا عن الإغماءات التي تصيب العاشق؟ وهل لها تفسير حقيقي؟ وهل كل حب يلزم منه إغماء؟ قيل: إنَّ عاشقاً نظر إلى معشوقه فارتعدتْ فرائصه وغُشي عليه، فقيل لحكيم ما الذي أصابه؟ فقال: نظر إلى مَن يحبه فانفرج له قلبه، فتحرَّك الجسم بانفراج القلب. فقيل له: نحن نحب أولادنا وأهلنا ولا يصيبنا ذلك. فقال: تلك محبة العقل، وهذه محبة الروح، وأنشد:
ومـا هو إلا أن يراها فُجاءةً
فتصطكَّ رجلاه ويسقط للجَنْبِ
وختاماً.. فلا تسأل عن العشق إلا أهله والمتخصصين فيه. يروى أنَّ المأمون سأل يحيى بن أكثم عن العشق فقال: سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه، وتؤثرها نفسه. فقال ثمامة بن أشرس: اسكت يا يحيى، إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق، أو محرمٍ صاد ظبياً، فأما هذه فمن مسائلنا نحن. فقال له المأمون: قل يا ثمامة، فقال: العشق جليسٌ ممتع، وأليفٌ مؤنس، وصاحبُ مَلِكٍ مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جارية، مَلَك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعقول وآراءها، قد أُعطي عنان طاعتها، وقوة تصرفها، توارى عن الأبصار مَدخلُه، وعمي عن القلوب مَسلكُه. فقال له المأمون: أحسنت يا ثمامة. وأمر له بألف دينار.