د. محمد عبدالله العوين
لم أكن أعلم أنني سألتقي بالشيخ لا في عمل مؤقت في المحكمة في عطلة الصيف حين كنت طالبا في المرحلة الثانوية بالمعهد العلمي فحسب؛ بل موجهاً ومعلماً حين تزوجت ابنته؛ فأصبحت اللقاءات التي كانت رسمية ونادرة في السابق تأخذ صفة أخرى مختلفة، وتكشفت شخصيته العميقة التي كانت مكنونة في مهابة القاضي والفقيه واللغوي والأديب، تجلت ملامح إِنسان آخر شفاف ورقيق ومرهف وحاد الذكاء، سريع الالتقاط، عميق الوعي، بصير بقراءة الشخصيات، قادر على الربط والاستنتاج السريع، صاحب دمعة قريبة حين يستطرد في تذكر مشايخه ومن تلقى العلم على أيديهم، أو مواقف العدل والشهامة والإخلاص والقوة في الحق ممن جلس إليهم من أفاضل العلماء والقضاة.
كنت أجلس إليه ساعات طوالاً تمتد من بعد صلاة العشاء إلى قرب منتصف الليل لا أداء لواجب الزيارة فحسب؛ بل تأخذنا الحوارات المطولة في قضايا اللغة والشعر والتاريخ والرجال وطلاب العلم والكتب والقصص في هذا المنحى المحبب له، فهو حفي باستعادة وتذكر مرحلة الطلب المبكرة حين كان يجلس في حلقات بين يدي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أو أخيه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز أبو حبيب الشثري وغيرهم من العلماء في الفقه واللغة، ويتذكر في حنين كيف كان يطلب منه المفتي - آنذاك - في حلقة التعلم بمسجد الشيخ محمد أن يقرأ بصوته الجهوري فصلاً من المقنع أو من المغني أو يطلب إليه إعراب جملة لحن فيها غيره؛ فكان المبرز من طلاب الحلقة في الوصول إلى الإعراب الصحيح مستدلا ببيت من ألفية ابن مالك مع شاهد شعري.
ويتحدث إلي في حنين عن «المكتبة السعودية» بدخنة وكيف كانت مرتاداً رحباً وغنياً للنجباء من طلبة العلم من جيله في العقدين السابع والثامن الهجريين من القرن الماضي، وعن معهد إمام الدعوة الذي انتظم فيه الشيخ طالبا، ثم عن كليتي الشريعة واللغة اللتين درس فيهما سنتين قبل أن تنفصلا إلى كليتين مستقلتين، ويفيض في تذكر الأجواء العلمية والتنافس الحاد بين الطلاب على التفوق والتميز؛ فلا ينسى احتفال المعهد العلمي السنوي أو الكليتين حين كان يحضرهما الملك سعود - رحمه الله - ويكافئ المبرزين من الطلاب المتميزين في مواهبهم.
كان الشيخ محمد شغوفا بالكتب ملاحقا للنادر من المؤلفات ويروي قصصا مثيرة للتعجب كيف كان يكلف بشراء كتاب في الفقه أو اللغة أو التاريخ أو الأدب طبع طبعة جديدة محققة، ولا يكتفي بما يمكن أن يجده في مكتبات الرياض كمكتبة المعارف في شارع العطايف أو مكتبة الرشد في طريق الحجاز القديم أو مكتبة الدخيل في شارع الخزان؛ بل يعرج حين يزور الحجاز على مكتبة المعارف بالطائف لصاحبها محمد سعيد كمال، وهو يجد في اقتناء الكتب وقراءتها متعة لا تعادلها متعة؛ فلا يكتفي بالتصفح السريع؛ بل يقرأ أحيانا بصوت عال مترنما على طريقة الأولين بما يقرأ وكأنه يغني أو ينشد، ثم يتوقف عند فكرة أو بيت من الشعر فيهمش عليه ويعلق عليه تعليقا واسعا بخط يده وكأن قراء سيأتون لاحقا ويقرؤون تعليقاته، وحين يبلغ منه الإجهاد مبلغه أو يداهمه النوم يضع في الهامش الأيمن أو الأيسر كلمة «قف» مع ورقة صغيرة بيضاء فاصلة بارز طرفها.
تحدثت إليه عام 1407هـ وأنا أكتب رسالتي في الماجستير عن كتاب «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» لجامعه عبد الرحمن بن قاسم وأنني لم أجد نسخة منه في مكتبات الرياض؛ فبسط لي القول عن الكتاب وجامعه، وذكر لي أنه كان موظفا في المكتبة السعودية بدخنة، وأنه استفاد من المكتبة في جمع رسائل أئمة الدعوة السلفية - جزاه الله خيرا - وقال: لديّ الطبعة الأولى منه التي طبعت على نفقة الملك عبد العزيز - رحمه الله - عام 1352هـ ثم قام وأتى بالكتاب وأهداه إلي وعليه له تهميشات عدة.