سعود عبدالعزيز الجنيدل
هذه المقولة -على حد علمي- منسوبة للفرزدق، إذ قالها رداً على النحوي ابن إسحاق حين سأله: «علام رفعت مجلّفُ» في قولك:
وعضُّ زمان يا بن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلّفُ
فابن إسحاق يرى أن «مجلف» حقها الرفع كونها معطوفة على المنصوب «مسحتا»، فلهذا سأل الفرزدق عن علة الرفع كونه القائل لهذا البيت.
فأجاب الفرزدق: «علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا».
ويقصد الفرزدق بهذه المقولة، أنكم أيها النحويون من يبحث عن العلل لكلامنا، وفقاً لقواعدكم، فنحن علينا القول، وأنتم عليكم تأويل ما نقول.
هذه ليست مقالة عن الأدب أو النظام النحوي, ولكني أردتها مدخلاً لما سيأتي.
بطبيعة الحال، هناك أمور تحدث لنا في حياتنا اليومية، وهي تختلف من زاوية النظر إليها، فمثلاً أحدنا ينظر إليها من جانب، ويراها الآخر من جانب آخر، وهي في حقيقتها شيء واحد.
ولكي يكون حكمك صحيحاً يجب أن تنظر في كل الاتجاهات ولا تكتف بجانب واحد، فكلما وسَّعت نظرتك للأمر اكشتفت فيه شيئاً جديداً.
حاول أن تبعد عنك الأفكار السلبية وتطردها من حياتك، حاول تلمس الأعذار لمن حولك، ولو صدر منهم شيء ضايقك، خذ بقاعدة التأويل، وفسره بإيجابية، وحسن نية، والعرب تضرب في هذا مثلاً رائعاً وتقول: «لعل له عذراً وأنت تلوم».
ولا بد لك من معرفة أمر مهم وهو اختلاف الآراء، وردة الأفعال من كل شخص، ولو تصرفت تصرفاً ما، فثق ثقة تامة أنه سيفسر بأكثر من تفسير، بعضه إيجابي، والآخر سلبي، وفقاً للمتلقين وطبيعة شخصياتهم، وثقافاتهم.
أختم بهاتين القصتين:
يقول الله سبحانه وتعالى:
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
ما الذي سيفعله سليمان وجنوده بناء على الآية السابقة؟ إنهم سيحطمون مساكن النمل، ولا يبقون منها شيئاً، ومع ذلك الضرر الكبير الذي سيخلفه هذا الفعل، إلا أن النملة التمستْ العذر لسليمان وجنوده، وهو (أنهم لا يقصدون ذلك)، لصغر حجم النمل، وذلك بقولها «وهم لا يشعرون».
القصة الأخرى.. علَّق الصولي على بيت أبي نواس هذا -انظر لروعة التأويل-
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سراً إذا ما أمكن الجهر
قال: إنَّ المعنى في قوله: (وقل لي هي الخمر), لعزتها عنده ومحبته لها أراد أن يتلذذ بها بحواسه الخمس التي هي طرق اللذات، وهي: الشم، والذوق، واللمس، والبصر، والسمع. فلما شرب القدح أبصرها وذاقها ومسها وشمها، فبقي أن يسمعها، فقال: وقل لي هي الخمر.
كلام جميل، ولا أظن أن أبا نواس نفسه قد فكر بهذا التحليل والتأويل لبيته، فهو مشغول بخمرياته ومجونه، ولكنه وبكل تأكيد سيفرح كثيراً لهذا التأويل.
في النهاية عليَّ أن أقول وعليكم أن تتأولوا.