د. محمد بن إبراهيم الملحم
ما زال الحديث عن قرار وزارة التعليم بجعل مادتي التربية البدنية والفنية مادتي نجاح ورسوب، وقد أوضحت تأييدي تدريسهما في الصفوف الأولية من الابتدائية وإلغاءها فيما يلي ذلك، أو على أقل تقدير في المرحلتين المتوسطة والثانوية. وهناك عدة أسباب تدعو إلى ذلك منها، ضعف الممارسة التدريسية جدا وعدم تحقق كثير من أهدافها التعليمية نتيجة لانتشار عدم أهمية المادة، فمعلم البدنية يرمي كرة القدم للطلاب دونما تدريب أو تقديم مهارات خاصة أو عامة، ومعلم الفنية يطلب منهم رسم موضوع معين وربما يغير من الأدوات من وقت لآخر ليعطي الحصة شيئا من التنوع، لكن دون اهتمام بتدريب الطالب على المهارات الفنية أو المعرفة المرتبطة بها، هذه هي الصورة النمطية الموروثة السائدة باستثناء عدد من المعلمين المخلصين والمحبين لمجالهم يقدمون أمثلة متميزة في تدريس المادة بتنمية مهارات الطلاب وأقدم لهم شكري واعتزازي بهم، لكنهم مع الأسف لا يمثلون غالبية يمكن الاعتماد عليها في تغيير الصورة.
في أحد نقاشاتي مع بعض الزملاء سقت هذا السبب لموقفي نحو المادتين، فعلّق أن سوء الممارسة لا ينبغي أن يكون سببا لنقض الأساس، وأؤيده في ذلك ولكن طالما أن الإصلاح يتطلب أجيالا والأمر يترتب عليه هدر كبير في الموارد، وبقاء الأمر كما هو تأكيد للممارسة الخاطئة في ظل انعدام أية برامج (أو نوايا) إصلاحية لهذا الوضع المتدهور، فإنَّ إزالته في المراحل العليا لن تضر طالما أن الحاجة إليه تتناقص في المستويات العليا بعد التأسيس، بل المنفعة في إلغائها حالياً أكبر، ليساعد ذلك النظام التعليمي في استرداد عافيته، إن هذا مثل الذي يصعد جبلا في قمته هواء يستشفي به، وقد أثقله كثير الغذاء الذي يحمله فيلقي بعضه لينجح في الصعود، وبعدها سيستعيد ما ألقاه بعد عودة عافيته بهواء القمة العليل.
إن إلغاء أية مادة من المنهج لا يعني استحالة إعادتها لاحقا، ولكن بسبب حاجة تعليمنا الحالي إلى «توضيب» مخططات المناهج، إضافة إلى احتياجاته الأساسية الأخرى كتدريب المعلم وتحسين أنظمة العمل وبيئته فإنه لا يتحمل حالياً ترهلات «القيمة المضافة» كالفنية والبدنية وحتى التربية الوطنية والاجتماعيات، فهذه كلها يمكن تدريسها في سنتين أو ثلاث عبر عمر الطالب الدراسي ثم تتوقف بعدها ليتمكن من استيعاب العلوم الأساسية ذات الطبيعة التراكمية كاللغة والرياضيات والعلوم، لأن تلك المواد تحتاج دراستها الى التأمل والبصيرة والتدرب المستمر الموصل إلى التمكن والإتقان Hands - on and Minds - on .
التجربة الدولية تقول إن الدول تدرس التربية البدنية والفنية وإن كان عدد منها لا يعدها مواد نجاح ورسوب، لكن هناك أمثلة لدول متقدمة ومهمة لا تدرس الرياضة بشكل كبير مثل ألمانيا مثلا، بل إن المنافسات الرياضية بين المدارس ليست ممارسة شائعة هناك، كما أن هناك 33 ولاية أمريكية مسموح فيها للطلاب استبدال حصة الرياضة بنشاط آخر كالتدريب على الفرق الاستعراضية مثلا، وفي دراسة عام 2011 لمراجعة وضع تدريس الرياضة عبر العالم وضحت أن 24 في المئة من الدول (باستثناء أوروبا) تأخذ مادة الرياضة فيها قيمة أقل من بقية المواد، كما وضحت أن في 44 في المئة من الدول حصص التربية البدنية هي التي تتعرض للإلغاء عند الحاجة بدلا من المواد الأخرى، واستشهدت بألمانيا وفرنسا وإسرائيل وسكوتلاندا.
أنا أؤمن بأهمية تدريس هاتين المادتين فمهارات تعلم المواد الأخرى يمكن أن تبنى من خلال أنشطة هاتين المادتين: كما يحصل في المنهج التكاملي Integrated Curriculum فالحركة أثناء التفكير تساعد على استيعاب الفكرة (المخترعون والشعراء يمشون عادة أثناء التفكير)، وممارسة الفنون لها انعكاسها الإيجابي على الاستيعاب والتفوق (طبعا الحديث عن أثر تدريس الفنون بكل أنواعها ليس الرسم والأشغال اليدوية فقط كما هو لدينا)، وإيماني هذا يجعلني أتطلع إلى اليوم الذي أرى فيه نظامنا التعليمي على قدر من الكفاءة (نظاما وتطبيقا) لدفع المعلم إلى تحقيق أهداف تدريس الفنون بكامل جمالها وروعتها ليدعم ذلك تفوق طلابنا، لكن الوضع الحالي يجعلني أدعو إلى الإلغاء كأسلوب تكتيكي في تحسين العملية التربوية والانطلاق بها للأفضل من خلال حزمة من الإجراءات والتي سيكون إلغاء كل مواد «القيمة المضافة» التي ذكرتها أحدها وليس هدفا بحد ذاته.