د.عبدالله مناع
في زحمة الأحاديث عن المرشحين للرئاسة الفرنسية، الذين بلغ عددهم.. أحد عشر مرشحاً هذا العام.. بزيادة مرشح واحد عن انتخابات عام 2012م، وعن أخبارهم وأجنداتهم السياسية، وبرامجهم الحزبية التي سيطبقونها.. إذا ما وصل أي منهم إلى سدَّة الرئاسة في (الإليزيه).. تناسى المحللون والمعلقون السياسيون، وأصحاب مراكز الدراسات - سهواً أو عمداً - الحديث عن أسباب مغادرة الرئيس (فرانسوا هولاند).. لـ(الإليزيه) وللرئاسة الفرنسية بـ(اختياره) والامتناع عن ترشيح نفسه لـ(دورة رئاسية ثانية)!! وهو ما لم تعرفه انتخابات الرئاسة الفرنسية.. منذ أن تم إقرار (الاقتراع العام) لانتخاب (رئيس الجمهورية) شعبياً وجماهيرياً عام 1962م ليشارك في انتخابه كل الفرنسيين: نساء ورجالاً.. فمعظم الرؤساء الفرنسيين الذين سبقوا الرئيس )هولاند( إلى (الإليزيه).. لم يغادروه إلا بعد دورتين دستوريتين متصلتين.. إن كان (ديستان) أو (شيراك) أو (ميتران) باستثناء الرئيس (ساركوزي)، الذي غادره بسقوطه في انتخابات الدورة الرئاسية الثانية له، وليس بـ(اختياره) أو بامتناعه عن ترشيح نفسه كما فعل الرئيس (فرانسوا هولاند).. في دورته الرئاسية الثانية وسط دهشة العالم.. والفرنسيين في مقدمتهم..!!
فإذا كان الرئيس (هولاند).. أراد بـ(امتناعه) عن ترشيح نفسه أن ينأى بنفسه من أن يكون وسط (هوجة) المرشحين هذه التي شهدتها انتخابات هذا العام - أو أن لا يكون حامل الرقم (12) على قائمة المرشحين المتنافسين - فإن ذلك من حقه.. دون شك، أما إذا اعتقد بأن عدم ترشيحه لنفسه.. سيقطع الطريق على منتقديه.. أو سيحول دون انتقادات الساسة والأحزاب له ولأدائه السياسي في (الإليزيه) طوال السنوات الخمس الماضية، أو حتى لـ(سيرته الشخصية).. فقد أوقعه تفكيره في (وهم) حرم أنصاره ومؤيدو سياساته - و(العرب) في مقدمتهم - من دورة رئاسية ثانية له في (الإليزيه)، ولم يقطع ألسنة منتقديه في أن يلوكوا سيرته.. أو يقطِّعوا (فروته) كما يقول أشقاؤنا المصريين!!
* * *
فمنذ الدورة الانتخابية (الأولى). التي جرت في الثالث والعشرين من شهر إبريل الماضي.. والتي أوصلت (إيمانويل ماكرون) مرشح تيار الوسط وحركة (السير إلى الإمام) بـ(23,75%) من الأصوات، و(مارلين لوبان) مرشحة حزب (الجبهة الوطنية الفرنسية) اليمينية المتطرفة بـ(21,53%) من الأصوات.. إلى الدورة (الثانية) والختامية، والتي ستشهد صراعها فرنسا اليوم - السابع من مايو - بين المرشحيْن.. كان الشارع الفرنسي قد علم بالكثير من تلك الأسباب التي حملت الرئيس (فرانسوا هولاند) على عدم ترشيح نفسه لدورة رئاسية ثانية في (الإليزيه) والتي كان في مقدمتها: فشل حكومة الرئيس (هولاند) في التصدي لـ(الإرهاب) الذي اجتاح فرنسا منذ تلك الليلة الباريسية الدامية: ليلة رأس سنة 2015م.. حتى وصل إلى أجمل وأعظم شوارع العاصمة: شارع (الشانزليزيه) في الشهر الماضي.. وكان ثانيها تزايد معدلات البطالة.. حتى وصلت - على بعض الأقوال) - إلى 27%، وكان ثالثها.. إستراتيجياً عميقاً، بمس مكانة فرنسا السياسية في أفريقيا.. التي تراجعت أمام المد الصيني.. حتى أوشكت (الصين) بقوتها الاقتصادية ومشاريعها (المشتركة) وسلعها الزهيدة.. أن تحل محل (فرنسا) وسلعها الباهظة، وهو أمر لا تطيقه أو تحتمله فرنسا، يضاف إلى ذلك.. على المستويين الشخصي والاجتماعي: (عزوبية) الرئيس هولاند بعد طلاقه من زوجته السابقة السيدة (سيغولان رويال) أم ابنه الوحيد منها.. وإقامته في المقابل لعلاقات نسائية خارج إطار الشرعية.. امتدت إلى عدد من الفنانات صغيرات السن لا تليق به وبـ(مكانته) السياسية ومقامه، وأنه لكل هذه الأسباب مجتمعة.. آثر - الرئيس هولاند - عدم ترشيح نفسه للرئاسة لدورة ثانية في (الإليزيه).. خوفاً من سقوط محتمل - إن رشح نفسه - وحفاظاً على تاريخه ومكانته السياسية كـ(زعيم) للحزب الاشتراكي، وخليفة للزعيم الفرنسي الراحل (فرانسوا ميتران) الذي لا تنسى زعامته: فرنسياً ودولياً وعربياً، فهو (الأب) الفعلي لمعهد العالم العربي للدراسات الثقافية، الذي أقامه إبان رئاسته في قلب العاصمة الفرنسية (باريس) وعلى ضفاف نهرها العظيم (السين).. وبمحاذاة حيها الأشهر والأجمل: الحي اللاتيني.. حي الثقافة والمثقفين والفنانين والجامعات.. متحملاً 25% من تكاليفه وميزانيته.. منذ أن قام قبل أكثر من عشرين عاماً.. وإلى يومنا هذا.
* * *
ولكن قبل أن تدور عجلة الدورة (الثانية) للانتخابات هذا اليوم - السابع من مايو - بين المرشحيْن: (ماكرون) و(لوبان).. كان المرشح الأقرب للفوز بـ(الرئاسة) (إيمانويل ماكرون).. بدعم الحزب الاشتراكي له، والرئيس (هولاند) شخصياً، وآخرين من الأحزاب والساسة.. قد أخذ يدلي بتصريحات فوقية مفرطة الثقة بالنفس.. عندما قال: (بعد خمسة عشر يوماً سأكون «رئيسكم»!! رئيس كل الشعب الفرنسي.. رئيس الوطنيين في مواجهة القوميين الشعوبيين).. وهي تصريحات استعلائية قد لا تخدمه أمام مجمل الناخبين الفرنسيين - (اليوم) - الذين لا يقلون استعلاءً وكبرياء عنه.. بينما أدلت (لوبان) بـ(تصريحات) أكثر تواضعاً وذكاءً وحنكة، لتدغدغ بها عواطف ومشاعر الناخبين الفرنسيين وتخدم بها فرص فوزها الصعب بـ(الرئاسة).. عندما أعلنت عن (انسحابها) من رئاسة (حزب الجبهة الوطنية).. من الآن!! وأنها (مرشحة رئاسية) للحزب.. وليس أكثر..!!
لتجري انتخابات الدورة (الثانية) بينهما اليوم.. وسط حراسة خمسين ألف شرطي فرنسي، ليفوز أحدهما في السابعة من مساء اليوم عندما تغلق صناديق الاقتراع.. بـ(جائزة) الوصول إلى (الإليزيه) ليكون الرئيس الفرنسي التاسع لـ(الجمهورية الفرنسية) الخامسة.. بينما يبدأ الرئيس (هولاند) المنتهية ولايته.. خلال الأسبوع القادم.. في جمع حقائبه وكتبه وأوراقه وكل متعلقاته الشخصية.. استعداداً لمغادرة (الإليزيه) في ختامه، ليدرك ساعتها فداحة القرار الذي اتخذه بعدم ترشيح نفسه لدورة رئاسية ثانية!!
* * *
على أي حال.. وأياً كان القادم الجديد لـ(الإليزيه): (ماكرون) أو (لوبان).. فإن العرب والفلسطينيين - في مقدمتهم - سيضعون أيديهم على قلوبهم.. خوفاً على مصير مؤتمر (إنقاذ: حل الدولتين)، في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تبنته إدارة الرئيس هولاند بكل ثقلها السياسي: الأوروبي والعالمي.. وباغتته الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وامتناع الرئيس فرانسوا هولاند.. عن خوضها!!